صحيح أنّ التجربة التونسية، بعد “الربيع العربي”، لم تكن سلسة تماماً، ولم تعبر بلا مخاضات عاصفة ولحظات دقيقة كادت تذهب بها نحو اتجاهات أخرى؛ إلاّ أنّها تبقى الوحيدة، بين التجارب الثورية الأخرى، التي ثبّتت أقدامها أكثر في المسار الديمقراطي والتعددي وتداول السلطة، وابتعدت أكثر عن سيناريو الحروب الأهلية والعصابات والفوضى والانقلابات العسكرية والصراعات الإقليمية والدولية.
هذا الإنجاز “الاستثنائي الديمقراطي” التونسي، حتى اللحظة، دفع بجملة كبيرة من الأسئلة والسجالات حول الأسباب والشروط الكامنة وراءه، مقارنةً بما أصاب التجارب الأخرى. واتجهت فرضيات وقراءات إلى التأكيد على قوة المجتمع المدني، وضمنها النقابات العمالية، في وضع حدّ لقوة الإسلاميين؛ وآخرون إلى قوة الحالة المدنية الثقافية المجتمعية في تونس. على الطرف الآخر، نسب إسلاميون الفضل في ذلك إلى حكمة وحنكة حزب حركة النهضة الإسلامي في تفويت الفرصة على استنساخ السيناريو المصري، والقبول بحفظ رأس المال، مع التنازل عن الربح.
لدى زعيم النهضة التونسية، راشد الغنوشي، كلمة السرّ في تفسير “الاستثناء الديمقراطي” التونسي، قدّمها لنا عبر كلمته المتميزة قبل يومين في المؤتمر التأسيسي لحزب نداء تونس، غريمه الأيديولوجي وشريكه في السلطة في الوقت نفسه؛ عندما تحدّث عن رؤيته لحزب نداء تونس، إذ قال: “نداء تونس صنع توازنا في الحياة السياسية؛ ولا ديمقراطية من دون توازن”. وأشار إلى أنّ “النهضة” و”النداء” هما “بمثابة جناحي الطائر التونسي، والباخرة التونسية يجب أن تحتوي الجميع، فلا يجوز استثناء أحد أو إقصاء أحد من الركوب فيها”.
الزعيم التونسي المحنّك أضاف أنّ المشكلة في تونس هي أنّ بعض التونسيين لا يريدون للبعض أن يشارك، لكن من الضروري أن يشارك الجميع. ثم وضع الكلمة المفتاحية لفهم هذه الوصفة، وهي “سياسة التوافق” التي من المفترض أن تسود وتحكم البلاد حتى تعبر المرحلة الانتقالية، وتصل إلى البرّ الديمقراطي؛ توافق بين القديم والجديد، وتوافق بين العلمانية والإسلام والإسلام والديمقراطية والحداثة، توافق يراكم على المراحل السابقة ولا يلغيها، منذ خير الدين التونسي وصولاً إلى الحبيب بورقيبة.
وربما مجرّد أن يقف زعيم حزب إسلامي في مؤتمر حزب انشئ في الأصل ليكون ندّاً وطرفاً معادياً لـ”النهضة” الإسلامي هو بحدّ ذاته نموذج على التعددية والاحتواء والتوافق، ومؤشر على سعة الأفق. وربما ذلك ما يكسر القاعدة الطريفة التي وضعها الباجي قائد السبسي في بدايات تأسيس الحزب، عندما قال: “النداء والنهضة عبارة عن خطّين متوازيين لا يلتقيان بإذن الله، وإذا التقيا فلا حول ولا قوة إلاّ بالله”!
“التوافق السياسي” في المرحلة الانتقالية هو الوصفة الوحيدة التي يمكن أن تخرج الدول العربية من المرحلة الانتقالية بأقل الأضرار، لتدفع بها خطوات نحو الديمقراطية؛ بما يكرّس التعددية، وتداول السلطة سلمياً، ويجذّر ثقافة القبول بالآخر، ويقطع بالناس مسافة فاصلة جيدة عن عهد المرحلة السابقة الدكتاتورية والسلطوية، ويولّد فكراً جديداً من الإيمان بالتداول السلمي للسلطة ورفض العنف.
هل يمكن أن يستفيد الآخرون من هذا الدرس المهم، سواء كانوا إسلاميين أو ليبراليين أو يساريين؟ فالطرق الأخرى؛ انقلابات أو ثورات مضادة أو قمع عنيف أو إقصاء.. كلها تؤدي إلى المشهد البديل لتونس؛ الفوضى والدماء والحروب الداخلية!