واقعة التحرش الجنسي العنيف ليلة رأس السنة بمئات النساء في الساحة الرئيسية لمدينة كولونيا الألمانية، قبالة الكاتدرائية التاريخية وحول محطة القطارات، تثير أسئلة في كل الاتجاهات، بعضها وصل إلى حد اعتبار تلك الحوادث «مدبرة»، والسيناريوات متعددة: أن الحادثة وقعت بتحريض من تيارات اليمين المتطرف المعادية للأغراب، بعضها مستولد من النازية وآخر جديد كحزب «بديل لأجل ألمانيا» أو جماعة «بيغيدا» المناهضة للمسلمين، التي سبق لها التظاهر مرات في البلاد، بشعارات عنصرية، وأحرقت مراكز للاجئين أو منازل لـ «غرباء» في أكثر من مدينة ألمانية. والتيار متنامٍ في أوروبا برمتها على أية حال، أو أن هناك تواطؤاً من بعض أجهزة الدولة حيث بدأ الأمر بإطلاق مفرقعات في تلك الناحية بطريقة مخالفة للقوانين، فتدخل البوليس لردعها، لكنه سرعان ما انكفأ عن المكان بحجة إتمام المهمة، فخلت الساحة والشوارع المحيطة بها لعصابات تتألف الواحدة من بضعة شبان، سكارى على الأغلب، راحت تحاصر النساء الموجودات في المكان الذي تكثر فيه المقاهي والحانات وتصب فيه قطارات النواحي، وتعتدي عليهن بالكلام المهين واللمس (وسجلت حادثتا اغتصاب من أصل حوالى مئة شكوى تقدمت بها النساء في اليوم التالي)، وتسلبهن هواتفهن ومحافظ نقودهن.
ويُنسب غياب الشرطة وانعدام تدابيرها الاحترازية (بل حتى إصدارها بياناً في الصباح يقول إن الاحتفال جرى على ما يرام)، إلى التقصير وسوء التقدير، ما لا يمنع تلميحات إلى تعمد الإهمال بقصد إحراج مركل التي تتبنى سياسة الترحيب باللاجئين، وقد وصل عدد من دخل منهم إلى ألمانيا في 2015 حوالى مليون ومئة ألف، أي خمسة أضعاف ما كان عليه الرقم في السنة السابقة، ينال كل منهم حوالى ستمئة يورو شهرياً، ما يجعل ألمانيا وجهة النزوح المفضلة للفارين من جحيم الموت في الحروب الطاحنة المشتعلة أو البؤس المصاحب لها واضطهاد الجماعات في سورية (نصف هؤلاء أو أقل قليلاً) والعراق وأفغانستان وإيران وبعض الدول الأفريقية.
بل وصلت الروايات الغرائبية للواقعة إلى افتراض وجود مؤامرة خفية، استخدم فيها شبان من هجرات قديمة، معظمهم من بلدان مغاربية، وبعضهم معروف من الشرطة لارتكابه جنحاً سابقة أو لممارسته التسويق البسيط للمخدرات (أي بيعها في الشارع). والدليل أنهم كانوا يتكلمون الألمانية، وهو ما لا يتمكن منه المهاجرون الجدد الذين وصل معظمهم بدءاً من آب (أغسطس) الفائت.
لكن هؤلاء الذين يرجح أنهم أبطال هذه الجريمة الواسعة، موجودون في ألمانيا منذ سنوات، ولم يتميزوا بأفعال كهذه، إلا على مستوى فردي مما يمكن أن يرتكبه أي إنسان، سواء كان مهاجراً أم مواطناً «أصيلاً». فلماذا الآن؟ وكيف حصل ذلك بتلك الطريقة الجماعية التي تبدو منظمة أو متفقاً عليها ومخططاً لها؟ فالحديث يجري عن ألف مشارك، وبافتراض المبالغة او التهويل، وبعد كل التحفظات، يبقى الرقم كبيراً ولا يخص شلة من الأصدقاء قررت ارتكاب ذلك العبث البائس في تلك الليلة. فهل استُخدِموا، وممن، وهل هو استخدام سياسي أم (كما قيل أيضاً) أنهم منزعجون من وفود تلك الأعداد الهائلة من النازحين المدعوين للبقاء في البلاد، والذين قد ينافسهم بعضهم بعد قليل في «الكار» وفي سائر أشغالهم، ويرغبون، أو يرغب مشغّلوهم من رؤوس عصابات الجريمة، وليس من السياسيين هذه المرة، في الإضرار بسمعتهم وربما دفع الموقف باتجاه وقف الهجرة أو حتى اتخاذ تدابير طرد لأعداد منهم إلى خارج البلاد.
كل هذا جانب من الموضوع، ما زال يتفاعل، ومن المرجح أن تصل التحقيقات إلى إجلاء الصورة، علماً أن ردود فعل المسؤولين الألمان، على اختلاف مستوياتهم، تميزت إجمالاً بقدر كبير من الروية، وحذّرت من تحميل النازحين مغبة فعلة المرتكِبين، بل قال أحدهم إن «الوصول إلى نتائج مهم لضحايا التحرش بمقدار ما هو مهم للنازحين» حتى لا يؤخذوا بجريرة أفعال سواهم، وقالت مركل ان «دولة القانون» ستتخذ التدابير العقابية بحق المجرمين «بغض النظر عن هوياتهم أو أصولهم»، ما يلغي المقاربات العقابية الجماعية التي تشمل «الفئات»، ويعيد حصر المحاسبة بالفرد المرتكِب، وبما يمليه القانون.
لكن كل ذلك لم يمنع ظهور تدابير توحي بأن هناك من اعتبر الجريمة وقعت «لاختلاف في الثقافة» (بل قيل ذلك أحياناً من قبل مسؤولين في لجة التصريحات الكثيرة). فقررت رئيسة بلدية كولونيا مثلاً «شرح» معاني احتفالات كرنفال المدينة الشهير، الشهر المقبل، لمنع تأويل بعض المشاهد أو حتى بعض الممارسات الاجتماعية المقبولة هنا، بطريقة خاطئة ممن «يأتون من خلفيات ثقافية مغايرة»، وهي جملة بالكاد مموهة للقول إن التحرش الجنسي وإهانة النساء قد يكونان مقبولين في أمكنة أخرى! أو أن وجود النساء في الأماكن العامة بحرية وكل ما يرافقه من سلوك، قد يحمل على سوء تفاهم حضاري.
الحلقة المفقودة في هذا الموقف، سواء قيل صراحة أو إيحاء، هي اعتبار ان التحرش الجماعي الشائع في بلدان عربية أو إسلامية أو أفريقية تعيش هزات أو حروباً وتفككاً مجتمعياً وسياسياً كبيرين، يستند إلى «تساهل ثقافي» مع الحالة (جمعيات «نظرة» و «بصمة» الناشئة في مصر للتصدي للظاهرة وسواهما، تقدر ان 90 في المئة من النساء المصريات تعرضن لأشكال متفاوتة العنف من التحرش، وصولاً للاغتصاب)، بينما هو من أعراض المرض الذي يجتاحها. وإن كان ذلك لا ينفي وجود استصغار لشأن النساء ودونية قانونية وتبرير للاعتداء عليهن واستخفاف به حين لا يُحمّلن المسؤولية عنه بسبب مظهرهن أو حضورهن بمفردهن في الأماكن العامة أو حتى لضحكهن بصوت عالٍ! علماً أن أعداد المتحرَّش بهن من المحجبات والمنقبات هائلة، وأن هناك ما يُقدّر بمليون امرأة ألمانية اغتصِبت في شرق البلاد إثر سقوط هتلر ودخول الجيش السوفياتي اليه. لعله كان آنذاك عملاً سياسياً كما هي وظيفة الاغتصابات الجماعية في الحروب (يوغوسلافيا السابقة أثناء تفككها مثلاً)… وفي كل الأحوال، وأياً تكن «الأسباب»، لا توجد «ثقافة» مطابقة أو مغايرة خلف ذلك.