يتسم وضع الجهات السياسية السورية بمفارقاتٍ أنتجها نصف قرن من استبداد شمولي، أدى إلى انهيار السياسة، وإصابتها بتشوهات بنيوية/ تكوينية، طاولت مجمل حقلها السياسي: الحاكم منه والحزبي المعارض.
انفرد بالسلطة السورية، طوال نصف القرن الماضي، شخصان ترك أولها، حافظ الأسد، بصماته القاتلة على حياة المجتمع والدولة، وأحدث قدراً من الخراب، رفض ابنه بشار التصدّي له.
يقول أحد الفلاسفة إن عجز نخبة حاكمة عن إصلاح نظامها الذي يتهاوى مؤشر يؤكد قرب موته. المفجع أن سقوط نظام شمولي من النمط الأسدي عنى، في حالتنا السورية، سقوطه وسقوط السياسة في آن معاً، وسقوط معارضته الحزبية أيضاً التي تنحدر مثله إلى حالٍ غير وظيفية ينتجها عجزها المزمن عن بلورة مسار فكري/ سياسي مغاير ومضاد لمساره، يختلف عنه في أسسه وحوامله وتطبيقاته. في سورية، احتبست الشمولية نفسها ومعارضتها في حالٍ من الجمود والركود، أبقته وأبقتها عديمة الحركة معظم الأوقات، وجعلتها تكتفي من الحراك بالخوف من العلنية وبالانطواء على نفسها، لكي تبتعد عن أعين النظام وأجهزة قمعه التي غطت الساحة العامة بكثافة، وجسر عملها فراغ السياسة الرسمية ونمطيتها التكرارية، وقتل روح المبادرة عند معارضتها.
رفضت السلطة الأسدية الإصلاح، لأنها رأت فيه بحق مقتلها. بدورها، عجزت المعارضة الحزبية عن إصلاح نفسها بالخروج من أيديولوجيا قومية/ اشتراكية، كان النظام يحتوي المجتمع ويحيده بواسطتها، ويبقي معارضته مجرد هامش على نص سلطته، حرص على عدم خروجها منه إلى نقيضه، نص الحرية الذي بقي غائباً عنها، فلم ينفعها تطعيم خطابها بمطلب ديمقراطية مفصولة عنه، لم تعتمد يوماً أداة ترسم سياستها وبرامجها انطلاقا منها وبدلالتها، واكتفت بها مطلباً غطت، من خلاله، تهافت نقدها لاستبداد لم ير فيها خطراً عليه، واعتبرها منافساً فاشلاً، يريد إحراجه بسياسة وشعارات هو صاحبها الأصلي، لم تكن لها نتيجة غير تقييد حركتها بوصفها معارضة نجح في اختراقها بعمق، وفي إرهاب أعضائها الذين تحدر معظمهم من فئات بينية غير مسيسة، يسهل التلاعب بها، ساعده على ذلك خطاب تنظيماتها الأجوف والجزئي، الذي كان في جوانب عديدة منه خطاباً شمولياً، رأت الأسدية فيه بحق أيديولوجية غوغائية، تساعدها على نزع السياسة من المجتمع، وتغريبه عن أي فكر وأية معرفة يمكن أن يحولا دون خروجه من الشأن العام.
مثل انفجار الثورة نقطة الذروة في رفض النظام الإصلاح، وبينما تسارع انحداره، حتى كاد ينهار تماما عامي 2012 و2015، تفاقم عجز المعارضة السورية عن رؤية واستغلال السانحة التاريخية الفريدة التي أتاحتها الثورة لها، وتزايد غرقها في مستنقع كلامي مطلبي افتقر إلى برامج عملية وأبعاد استراتيجية، في حين أسهمت انقساماتها في زيادة هامشية دورها وتناقض مواقفها، ومنعتها من لعب دور قيادي حتى على الأصعدة المحلية، وحالت بينها وبين كسب ثقة القطاعات الشعبية وتأييدها، وهي القطاعات التي كان النظام يبيد قياداتها المدنية صانعة الثورة، ليبقيها أسيرة قلة الخبرة والعشوائية، ويفشلها حراكها من أجل الحرية. هذا الوضع الذي قدم فرصة فريدة للمعارضة لم يتم استغلاله، بسبب ضعفها وافتقارها إلى وعي ثوري، وعلاقات واسعة مع المجتمع، وقوى كافية لقيادة حراكه، كما لم تبلور استراتيجية عمل وخطط تنفيذية تترجمها، بل بلبلت الحراك بتناقضاتها وانقساماتها، وأسهمت في رفع كلفته البشرية، وتركته للأصوليات، فلا عجب أن يتزامن سقوطها مع سقوط الأسدية.
واليوم، تمضي ثورة سورية على درب التضحيات والحرية، بينما تفصح سياسات النظام أكثر فأكثر عن عمق الطابع الإجرامي الذي لازمها دوماً، وتغرق معارضته غرقاً متزايداً في هامشيتها وعجزها.