يحلو للبعض إطلاق مصطلح «الوطن العربي» على مجموعة الدول الناطقة بالضاد في منطقة الشرق الأوسط، لتأكيد ما يجمع بين شعوب هذه المجموعة من قواسم مشتركة، بينما يصرّ البعض الآخر على استخدام مصطلح «العالم العربي»، لتأكيد ما يفرّق بينها. ومن الواضح أن هذه المنطقة لا تشكّل، بالمنظور العلمي وليس الأيديولوجي، كياناً سياسياً أو عرقياً أو دينياً أو طائفياً أو اجتماعياً واحداً. فهي منطقة مقسّمة سياسياً إلى 22 دولة مستقلّة لكل منها نظام سياسي خاص بها، بل إن بعضها يخلو تماماً من أية أحزاب أو حركات يسمح لها بممارسة نشاط سياسي. صحيح أن هذه الدول أعضاء في منظمة إقليمية واحدة تسمى «جامعة الدول العربية»، لكن هذه «الجامعة» هي مجرد مظلة لكيانات منفصلة ولا تشكل كياناً فاعلاً يتمتع بإرادة حقيقية مستقلة أو بسلطات وصلاحيات «فوق قُطرية». وهي منطقة متنوعة الأعراق. فإلى جانب العرب، والذين يشكلون غالبية ساحقة، ينتمي الملايين من سكانها إلى قوميات وأعراق أخرى، كالأكراد والتركمان والشركس والأرمن والأمازيغ والأفارقة وغيرهم. وهي منطقة متعدّدة الأديان، فإلى جانب المسلمين، والذين يشكلون غالبية ساحقة، يشكّل المسيحيون نسباً لا يستهان بها من السكان في بعض الأقطار التي تضمّ أقليات دينية أخرى. وهي منطقة مليئة بالطوائف والملل والنحل، فالمسلمون فيها ينقسمون إلى سُنَّة وشيعة ودروز وعلويين وغيرهم، والمسيحيون ينقسمون بدورهم إلى أرثوذوكس وكاثوليك وبروتستانت وأقباط وموارنة… الخ. ولا تشكّل المنطقة كياناً اجتماعياً متجانساً حيث يتوزع سكانها بين بادية وحضر، ومزارعين ورعاة، وما يزال مستوى التصنيع فيها محدوداً للغاية. وعلى رغم سيادة النظام القبلي في بعض الدول، إلا أن القبائل العربية كثيراً ما تكون متداخلة وعابرة للحدود السياسية والدينية والطائفية في أحيان كثيرة. ففي داخل القبيلة الواحدة، يمكن أن يوجد السني والشيعي، بل المسلم والمسيحي. وربما يفسر هذا التنوع الهائل بعض أبعاد الصراعات الحادة الجارية حالياً في هذه المنطقة، وهي صراعات تتخفى حالياً وراء عباءات عرقية أو دينية أو طائفية أو قبلية، على رغم كونها صراعات سياسية في المقام الأول. ففي داخل كل دولة عربية تقريباً، صراعات بين كل المكونات العرقية والطائفية والدينية: فالعرب في مواجهة غير العرب وفي مواجهة مع بعضهم البعض، والمسلمون في مواجهة غير المسلمين وفي مواجهة مع بعضهم البعض. وهناك مواجهات بين دول عربية ودول عربية أخرى، وبين دول عربية وجاراتها غير العربية. ولأنها صراعات تفاقمت في الآونة الأخيرة، وبدأت تأخذ شكل حروب أهلية وإقليمية ودولية مدمرة وباهظة الكلفة إنسانياً ومادياً، يعتقد البعض أن المنطقة العربية لن تعرف الاستقرار والهدوء بعد الآن، إلا إذا أعيد رسم خرائطها وحدودها على أسس جديدة تختلف كلياً عن تلك التي تم اعتمادها في اتفاق «سايكس – بيكو» عام 1917، حين كانت دول الاستعمار الأوروبي تقسم في ما بينها تركة إمبراطورية عثمانية آيلة الى السقوط. ومع التسليم بأن الحدود التي رسمها هذا الاتفاق لم تأخذ في اعتبارها سوى مصالح الدول الاستعمارية، على رغم حرصها في الوقت نفسه على إرضاء بعض الأسر أو القبائل العربية المتعاونة مع بريطانيا إبان الحرب، إلا أن السؤال الذي يطرح نفسه هنا في شكل تلقائي: ما هي الأسس التي يتعين الاستناد إليها لتصبح الحدود الجديدة قابلة لتحقيق الأمن والاستقرار وقادرة على استعادة الهدوء للمنطقة؟
للإجابة عن هذا السؤال، دعونا نحاول أولاً استعراض دلالة ما جرى للمنطقة عقب رسم خريطتها القديمة، قبل أن نحاول استشراف مصيرها إذا نجحت المحاولات الرامية لرسم خريطة جديدة لها. فقد أفرز اتفاق «سايكس – بيكو» دولاً وطنية، وُصفت أحياناً بـ «القُطرية» كما وصفت حدودها بـ «المصطنعة»، وتعرّضت لهجوم ضار من جانب التيارين القومي والإسلامي على السواء. فالقوميون العرب، والذين كانوا يتوقون في ذلك الوقت الى تأسيس دولة عربية موحدة، نواتُها المشرق العربي على الأقل، رأوا في الحدود الجديدة تكريساً لتجزئة وعقبة تحول دون تمكين الأمة العربية من إقامة دولة موحّدة كسائر الأمم. والإسلاميون العرب، والذين لم ييأسوا من إمكان استعادة الخلافة الإسلامية، ولو في طبعتها العربية (الأموية والعباسية)، رأوا فيها أيضاً حدوداً مصطنعة وعائقاً يحول دون تمكين المسلمين، والذين يشكلون من منظورهم أمة واحدة تقوم على وحدة العقيدة وليس العرق، من إقامة دولتهم الموحدة. وهكذا حشرت الدولة «الوطنية» في العالم العربي، ومنذ لحظة ميلادها في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الأولى وحتى مرحلة ما بعد الاستقلال، بين مطرقة القوميين وسندان الإسلاميين، إلى أن وصلت الآن إلى حالة من الضعف والهوان وأصبحت على وشك التحلل والانهيار.
غير أن الإنصاف يفرض علينا الاعتراف بأن فشل الدولة الوطنية في العالم العربي لا يعود فقط إلى المحاولات الرامية الى تجاوزها، وبالتالي الى تحطيمها من جانب التيارين القومي والإسلامي، كل لأسباب ودوافع أيديولوجية مختلفة، وإنما يعود أولاً وقبل كل شيء إلى عجز النخب الحاكمة في معظم الدول العربية عن تأسيس نظم سياسية تتّسع لمشاركة كل التيارات الفكرية والسياسية وتكفل حقوق المواطنة للجميع، بخاصة حقوق الأقليات. لذا يمكن القول أن الأقليات العرقية والدينية والطائفية ربما تكون قد لعبت الدور الأخطر في تقويض أسس الدولة الوطنية في العالم العربي، خصوصاً في الحالات التي حاولت فيها تلك الأقليات تغطية انتماءاتها الطائفية بعباءات أيديولوجية قومية أو إسلامية أوسع. وربما لا أكون مبالغاً إن قلت إن معظم البؤر الساخنة حالياً في العالم العربي تعكس «انتفاضة أقليات» بأكثر مما تعكس ثورات شعوب، لكن هل ستؤدي إعادة رسم الحدود في الوطن العربي على أسس طائفية أو عرقية إلى إعادة الاستقرار والأمن للمنطقة ككل، أو حتى للطوائف المنتفضة الآن والتي يتعيّن الاعتراف بأن بعضها عانى كثيراً من قبل؟ أشك كثيراً وأعتقد أن العكس ربما يكون هو الأصح.
قيام دول جديدة في العالم العربي بغالبيات شيعية أو علوية أو درزية أو مسيحية أو كردية، لن يحلّ أي مشكلة وإنما سيؤدي فقط إلى استبدال غالبية متحكمة بأخرى ربما تصبح أكثر تحكماً، ولن تتورع بدورها عن اضطهاد الأقليات التي تتحكم فيها، أما إقامة دويلة لكل طائفة أو دويلات طائفية نقية وخالية من الأقليات، فلن يكون لها سوى معنى واحد وهو دخول المنطقة في عمليات تطهير عرقي متبادل، وبالتالي اتساع نطاق الحروب الأهلية واشتداد أوارها وامتدادها مكانياً إلى مناطق جديدة، وزمنياً إلى ما لا نهاية. وإذا استمرت الأوضاع على ما هي عليه الآن، فستنزلق المنطقة حتماً إلى هذا المصير، بوعي أو من دون وعي. فما الحل إذاً؟
الحل العقلاني الوحيد يكمن، في تقديري، في المبادرة الى اتخاذ سلسلة من الإجراءات والخطوات يمكن تلخيصها على النحو التالي:
* عقد اجتماع فوري على مستوى القمة بين قادة الدول العربية الرئيسية التي لا تزال متماسكة عسكرياً وسياسياً، في مقدمها مصر والسعودية والمغرب والجزائر، يستهدف بلورة موقف عربي موحد من الأزمات المشتعلة في العالم العربي، بخاصة في سورية واليمن وليبيا، وطرح هذا الموقف كأساس لتسوية تلك الأزمات وبطريقة تساعد على تفعيل القرارات الصادرة عن مجلس الأمن.
* إقامة مؤسسات للتعاون الفعال بين هذه الدول الأربع، في المجالات السياسية والعسكرية والاقتصادية، تصلح نواة ونموذجاً مصغراً لما ينبغي أن تكون عليه مؤسسات النظام العربي الجديد، على أن يتم توسيع هذه النواة بضم دول جديدة إليها وفقاً لرؤية الدول المؤسسة وشروطها.
* دخول هذه المجموعة النواة ككتلة موحدة في حوار مع كل من إيران وتركيا، يستهدف احتواء الفتنة الطائفية بين الشيعة والسنّة، من ناحية، وتحويل دول الجوار الإسلامي إلى عمق وإلى مجال حيوي للدول العربية، من ناحية أخرى، وأيضاً في حوار مع الأطراف الفلسطينية لتسوية الخلافات بينها ولتمهيد الطريق أمام تسوية سلمية مقبولة للصراع مع إسرائيل.
قد يبدو هذا النوع من التفكير ضرباً من الخيال في ظل تصاعد الأزمة بين السعودية وإيران، والتي أدت إلى قطع العلاقات الديبلوماسية بين البلدين. غير أنني أعتقد أن هذا هو الوقت الملائم تماماً للتفكير «خارج الصندوق». أناشد الرئيس عبدالفتاح السيسي بأن يبدأ تحركاً سريعاً لاحتواء الأزمة حتى لو تطلّب الأمر زيارة إيران.
* كاتب مصري