صار بدهياً بالنسبة لإعلاميّ عربي مرموق، ورئيس تحرير صحيفة محسوبة على محور دمشق طهران، القول إن محاربة آل سعود أولوية على قتال الصهاينة في الوقت الحالي. وعند هذا القول ما يقابله لدى الطرف الآخر، وهو أيضا لمحلل إعلامي مشهور: “سنحارب إيران ونهزمها في سورية واليمن والعراق، ونعيدها لحجمها الطبيعي مهما كلف الأمر”.
وكأن أنهار الدم التي تسيل في شوارع العراق وسورية واليمن، لا تكفي دليلا على أن الأمة توشك على الغرق في حرب مذهبية طويلة؛ فتتصدى وسائل الإعلام للمهمة، وتشحن العواطف لتبذل المزيد من التضحيات في حروبهم هذه!
إعلام لا يرحم أبدا، ولا يشبع من أخبار الموت والقتل. وكلما لاحت فرصة لتدارك الكارثة، يحمل على عاتقه مهمة تخريبها، وجرّنا إلى الخلف قرونا طويلة.
لم تعهد الساحة الإعلامية العربية استقطابا مذهبيا وطائفيا بهذه الحدة والقسوة. ولم يكن الإعلام سلاح فتنة كما هو اليوم؛ يتقدم الصفوف، ويسبق المقاتلين إلى أرض المعركة، ويدفع بالدول إلى الحروب دفعا.
وسائل الإعلام التي وجدت من أجل مهمات جليلة وإنسانية؛ نقل الأخبار، وتنوير الخلق، وتقريب الشعوب من بعضها بعضا، والتزام الحياد والموضوعية، واحترام القواعد الأخلاقية والمهنية، تحولت في أيدينا إلى أسلحة فتاكة. بتنا جميعا نردد من دون وعي مصطلح “سلاح الإعلام”، وقد صار بالفعل سلاحا للقتل والفتنة والفرقة. هل نفكر في التوقف عن استخدام هذا المصطلح، ونعود لوصف إنساني يليق بمكانة الإعلام؟
لم يترك المذهبيون والطائفيون، وما بات يعرف بإعلام الأقليات المقيت، فرصة للشعوب لترى نفسها خارج هوياتها البدائية. في تلفزيوناتهم وصحفهم يحشون عقول العرب بخطاب الكراهية والفتنة. كان السوري والعراقي واليمني يخجل من ذكر هويته الطائفية، فأصبح اليوم يفخر بها، ولا يعرّف نفسه من دونها.
في الأيام التي تلت التصعيد السياسي بين السعودية وإيران، لم يتأخر إعلام الفتنة عن المعركة. كانت لحظته التاريخية؛ فدخل الفريقان في سباق مع الأحداث لتحشيد أبناء الطوائف في المعركة المصيرية. لم يوفروا مصطلحا في قاموس الكراهية إلا استخدموه، وتفننوا في توظيف البذيء من اللغة لإهانة الآخر وتحقيره. وكما قلت؛ سبقوا الجيوش إلى ساحة المعركة، وراحوا يعقدون المقارنات بين جيشي البلدين وما يمتلكان من صواريخ وقاذفات لحرب يريدها إعلام الفتنة اليوم قبل الغد.
تكفي أحيانا مطالعة العناوين، لنعرف كم من الجهد يبذل لانتقاء أكثر العبارات استفزازا من تصريحات المسؤولين؛ لا لجذب القراء فقط، بل أيضا لشحنهم بالحقد والكراهية. ومن بعدها لا بد أن يجدوا من يترجم الخطاب هذا إلى أحزمة ناسفة، وقنابل تقتل من تقتل من الأبرياء، إذ لا يهم، فهي حرب مقدسة ولا بد أن يدفع المساكين والفقراء ثمنها من دمائهم.
ليتنا لم نعش زمن ثورة الإعلام والمعلومات؛ فقد تحولت في أيدي العربان إلى معاول هدم، وأدوات حرب وقتل. كنا نعوّل على التكنولوجيا في معركة التنوير والمعرفة، وإذا بها توظف لأبشع الغايات وأسفلها.
إعلام يقطر كراهية ولا يعرف الرحمة، ولا يرأف بالناس الموجوعين بالموت والجهل، يزيد حياتهم بؤسا فوق بؤسها، ويخطف عقولهم وقلوبهم من دون اكتراث بإنسانيتهم.