عبر خطاب استمر قرابة 25 دقيقة، خاطب البغدادي “المسلمين” في العالم، وأعضاء تنظيم “داعش” الذي يقوده، موجّهاً رسائل واضحة، ضمن النسق المعروف لإيديولوجيا التنظيم، متحدثاً عن اجتماع العالم لقتال “الدولة الإسلامية” المزعومة، ومسقطاً كمّاً كبيراً من الآيات والأحاديث على ما يحدث اليوم من توحيد “الكفر العالمي” و”الروافض” و”المرتدين” (الحكومات العربية) و”الصحوات” (الفصائل الإسلامية الأخرى)، ضد “المشروع” الذي يمثله التنظيم!
قد يبدو للبعض أنّ الخطاب محدود في محتواه السياسي وسطحي من الناحية الدينية، وهو كذلك بالطبع. لكن لا تخلدوا إلى هذه الاستنتاجات السهلة المريحة؛ فمن الضروري أن نقرن قراءة هذا الخطاب بسؤال مهم وأساسي، هو: إذا كنا نرى هذا الخطاب بهذا المستوى من الضعف والمحدودية، فلماذا يبدو أكثر تأثيراً، نافذاً بقوة لدى عشرات الآلاف من الشباب العربي والمسلم من مؤيدي التنظيم؟
الجواب عن هذا السؤال يرتبط بجانبين مهمين يتغذّى عليهما خطاب “داعش” عموماً، واتّكأ عليهما كثيراً البغدادي في خطابه الأخير.
الجانب الأول، أنّ هذا الخطاب يتميّز بالقدرة على توظيف الموروث الفكري والفقهي الكبير، الذي لم يتعرّض لمراجعة عميقة وتنقيح وتحديث، فبقي على حاله يتم تدريسه وتعليمه في الجامعات والكليات والمساجد، ويمثّل جزءاً من المخزون الوجداني والروحي للمجتمعات العربية والمسلمة، فيما يأتي هذا التنظيم ليلعب على أوتاره ويستثمره في صراعه الحالي، بكفاءة عالية، من دون وجود منظومة فقهية بديلة تقوم بتقديم البديل العميق المقنع لأولئك الشباب، وتفنّد الخطاب الذي يستخدمه التنظيم بصورة ذكية وعميقة.
الجانب الثاني، وهو متكامل وداعم بقوة للجانب الأول، ولولاه لما نجح التنظيم في التجنيد والتعبئة، والمقصود، هنا، الأزمة السياسية الراهنة الكبيرة في العديد من المجتمعات العربية، وغياب الديمقراطية، والفراغ الاستراتيجي الناجم عن ضعف النظام الإقليمي العربي، ما يخلق حالة فوضى وانحسار في القوى العربية، مقابل صعود المحور الإيراني-الروسي، فيبدو هذا التنظيم وكأنّه بالفعل يدافع عن قضية الأغلبيات “السُّنيّة” (مع توظيف ذلك طائفياً) في العراق وسورية، وغيرهما من الدول.
تضافر الجانبين السابقين يمنح رواية التنظيم قدراً كبيراً من الأهمية لدى نوعية معينة من الشباب العربي أو الجمهور بصفة عامة، مع تردّي الخطاب الإعلامي الرسمي العربي، وعجز الدول العربية، وعدم استقلالية الخطاب الديني للمؤسسات الدينية المعنية، وتراجع حضور التيارات الإسلامية “الوسطية” بعد الانقلاب العسكري في مصر، بانحسارها الذاتي أو محاصرتها سياسياً وأمنياً من قبل الأنظمة العربية.
مرّة أخرى، هي حرب مشاريع ومفاهيم بالدرجة الرئيسة! أكثر منها حرب أمنية أو عسكرية. فهذا التنظيم يقدم نفسه من خلال مفاهيم الدولة الإسلامية؛ تطبيق الشريعة، الدفاع عن السُّنّة، مواجهة الهيمنة العالمية، مواجهة المشروع الإيراني. فهو، نظرياً، يمثّل “اليوتوبيا” التي يبحث عنها آلاف الشباب العربي والمسلم، الذين تربّوا على هذه المدونات الفقهية والإيديولوجية الجمودية، ولم يطوّروا مفاهيم جديدة للإسلام وقيمه ومقاصده، ووقعوا في الوقت نفسه تحت الأزمة المركّبة التي تعيشها الدولة والمجتمعات العربية اليوم!
إذن، المطلوب اليوم أن نواجه حرب المفاهيم أولاً، لنقول للشباب كيف أنّ التنظيم أسقط مفاهيم ونصوصا بصورة مفتعلة وخاطئة على حالته الراهنة، وكيف أنّ الإسلام سياسياً لا يريد أن يصل إلى مفاهيم قمعية بوليسية قسرية.. إلخ. وكيف أنّ مواجهة التحديات الراهنة لا تكمن باللجوء إلى هذا الخيار العدمي، وكيف أنّ الإسلام ليس دين القتل والذبح والتعذيب، وكيف أنّ إقامة أحكامه مرتبطة بالزمان والمكان وبالعلل والمقاصد والاجتهاد!
للأمانة، فاجأني أبو قتادة في ردّه على خطاب البغدادي بعمق وقوة، بالرغم من أنّه أحد منظّري السلفية الجهادية. وكم تمنيت أن أقرأ رداً من الإخوان المسلمين أو المؤسسات الدينية الرسمية بهذا الوزن والحجم!