لا شك في أهمية ما توصلت اليه الدولتان الكُبريان في اتفاقهما، أخيراً، حول الحل السياسي في سورية. هذه أول مرة تتفق فيها الدولتان على آليات الحل وتحقيبه، انطلاقا من وثيقة جنيف 1 مرجعية ملزمة، واستناداً إلى تشكيل الهيئة الحاكمة الانتقالية التي يبدأ الحل بها. صحيح أنه سبق للدولتين أن أقرّتا شيئاً مشابهاً، هو وثيقة جنيف 1، إلا أن خلافاتهما حول قضايا غير سورية أساساً حالت دون تطبيقه في جنيف 2. أما اليوم ، فإن فرص الحل السوري تتعاظم، لأن واشنطن وموسكو في طريقهما إلى تسوية ما وقف من تناقضات وخلافات بينهما، ومنع اتفاقهما على الحل قرابة ثلاثة أعوام. بكلام آخر: ليس نص القرار الحالي هو الجديد، فهو موجود، بهذه الطريقة أو تلك، منذ يونيو/ حزيران من عام 2012. الجديد هو بيئته الدولية، أي تفاهم الروس والأميركيين على حل في سورية وأوكرانيا، يسوّي المشكلتين بالتقابل، فيوافق الأميركيون على ضم شبه جزيرة القرم إلى روسيا، في حال وافق سكانها على الضم، في استفتاءٍ تشرف عليه الأمم المتحدة وقبلته أوكرانيا، وتتخلى روسيا، في الوقت نفسه، عن تعطيل الحل في سورية، وتوافق على مرجعية جنيف 1 وآليات تطبيقه، وخصوصاً منها تشكيل الهيئة الحاكمة الانتقالية، ووحدة سورية دولةً ومجتمعاً، ونظامها البديل: التعددي والمدني والبرلماني، وكبح خطر الإرهاب عليها في الحقبة المقبلة.
السؤال الآن: هل سيطبق الاتفاق الجديد؟ إذا نجح التفاهم على أوكرانيا، وتم رفع العقوبات الاقتصادية الأميركية والدولية عن روسيا، فإن ذلك سيؤسس أرضية مشتركة توافقية وشرعية، لتطبيق قرار مجلس الأمن رقم 2254 ، تقبل تشكيل “الهيئة الحاكمة الانتقالية” كاملة الصلاحيات، التي ستتولى وظائف الأسد. وإذا كانت هناك خلافات وصفها وزير الخارجية الأميركي، جون كيري، بالحادة حول مصيره، فلأن روسيا تريد استخدامه ورقة ضغط في المسألة الأوكرانية، وأداة لـ “فركشة” الحل، في حال أخلّت أميركا بالتزاماتها الأوكرانية، وتعنتت في قضايا أخرى عالقة، تتعلق بالتفاهم على مكانة موسكو ودورها في عالمٍ يشهد تحولاتٍ كبرى، تنقل مركز ثقل مصالحه من المحيط الأطلسي إلى المحيط الهادي، قد تدفع روسيا إلى خارج دائرة التأثير والفعل في حاضر العلاقات الدولية ومستقبلها، وهي التي تمارس، منذ بعض الوقت، سياسات قوة غير مقبولة في مسائل إقليمية، تنتمي إلى دائرتها الجغرافية والسياسية المباشرة، في حين تمثل سورية، بالمقارنة معها، جزءاً من دائرة خارجية، دولية الطابع، تمسك بها وتستخدمها، للوصول إلى مواقع سبق أن كان للاتحاد السوفييتي مكانة خاصة فيها، وخصوصاً في الشرق العربي والأوسط، حيث لها اليوم قواعد عسكرية وعلاقات أمنية خاصة، وتحاول لعب دور قيادي في الحرب ضد الإرهاب، بالتوازي مع واشنطن اليوم، وبالتعاون معها غداً، في حال تم التفاهم على المشكلات القائمة بين الجانبين، وبالتبعية على حل سياسي للمعضلة السورية.
هناك فارق بين “جنيف” وقرار مجلس الأمن الحالي، هو التالي: بينما جعل جنيف البديل الديمقراطي مآلاً حتمياً لعمل الهيئة الحاكمة الانتقالية، وألزم الطرف الآخر المشارك في تكوينها بهذا الخيار، فرض القرار الحالي إصلاحاً دستورياً تعقبه انتخابات، يرجح أن تكون تنافسية بين شريكي الهيئة، إن فاز الطرف الحكومي فيها، قام نظام تعددي/ انتخابي ولا طائفي، لكن ديمقراطيته ستكون محدودة أو مقيدة، بل إنه قد لا يكون ديمقراطياً بالمرة.
باختصار: هذا اتفاق أولي ثان، أنتجته تفاهمات الدولتين الكبريين حول مشكلات عالقة بينهما، لا علاقة لسورية بها، يترك للسوريين مشكلاتٍ سيكون من الصعب عليهم حلها بمفردهم، تتصل بتطبيق مبدأ التراضي الذي لعب دوراً مهماً في تعطيل جنيف 1 وإفشال جنيف 2، وبالتالي، بفرص قيام “الهيئة الحاكمة الانتقالية” التي يتعارض وجودها ودورها مع وجود الأسد ودوره، وهو صديق موسكو الذي تعلن تمسكها به. هناك أيضاً مشكلات لم يتم التطرق إليها في القرار، أهمها الوجود الحربي الروسي في سورية، وتحديد هوية التنظيمات الإرهابية، وما إذا كان سيتم وفق معايير تأخذ بالاعتبار مصالح الشعب السوري ومطالبه.
إنها خطوة أولى على قدر كبير من الأهمية، تفتح أبواباً للحل، من غير الجائز أن يسمح العالم لأية جهة بإغلاقها.