من الإنصاف القول، بأن الأردن استطاع أن يجتاز بنجاح معظم المشكلات السياسية التي تولدت عن حالة الفوضى والاضطراب التي تعصف بالمنطقة منذ سنوات. وهذا انجاز يعود فيه الفضل للدولة بأسرها، القيادة والمجتمع والإدارة . إلا أن الانجاز على الصعيد الاقتصادي الاجتماعي لا يزال قلقا و محدوداً، ولم تأخذه الإدارات الرسمية مأخذ الجد والخطورة، وذلك بسبب اللجوء إلى المعونات والمنح والاقتراض لمواجهة المتطلبات المختلفة. لقد تجاوزت المديونية 24 مليار دينار لتقترب من 90% من الناتج المحلي الإجمالي و تعدت البطالة 13% و ارتفع خط الفقر في كثير من المناطق، و اختل التوازن بين الدخول و بين تكاليف المعيشة نتيجة لتدفق اللاجئين و ضعف الإنتاج المحلي و للارتفاعات غير المنضبطة بالأسعار. وفي ضوء استمرار الأزمة في الدول العربية المحيطة ،وتراجع أسعار النفط إلى مستويات متدنية غير مسبوقة لعدة سنوات، فإن علينا أن نتوقع بأن فرص المساعدات والمنح سوف تضيق سنة بعد سنة سواء من حيث الكم أو الفاعلية. وهذا يتطلب النظر في الموضوع بالحرص و الخطورة المناسبة ،و بالتالي البدء في تنفيذ برنامج فعال يدعم الأداء الاقتصادي الاجتماعي في الوطن، ويطلق الطاقات الكامنة لدى أبناء و بنات البلاد.
و السؤال الكبير هو “لماذا تراجع بل توقف ذلك الزخم الإقتصادي الإجتماعي الذي شهدته البلاد منذ الستينات و حتى أوائل التسعينات من القرن الماضي؟” مهما تعددت الأسباب، فإن واحدا من أهمها يتمثل في “تخبط بل و غياب السياسات الإقتصادية الإجتماعية”،و “تخلي الدولة عن مسؤولياتها تحت تأثير الفهم الخاطئ للخصخصة و تحرير الإقتصاد” ،مما أدى إلى تراجع الطبقة الوسطى و تقلصها إلى حجم أفقدها فاعليتها الإجتماعية الإقتصادية. ومن هنا فإن أمر إعادة بناء الطبقة الوسطى الأردنية يبرز كأحد الأركان الأساسية لإعادة الزخم والفاعلية للإقتصاد و لضمان استمرارية النهوض الإجتماعي. فالمشاريع الصغيرة والمتوسطة، والتكوينات الرأسمالية التي يتم استثمارها في المشاريع الإنتاجية التي هي العمود الفقري لأي إقتصاد، تأتي عادة من هذه الطبقة. ولنا أن نفيد من تجارب الدول التي نجحت في هذا المجال.
فعلى سبيل المثال تتابع الصين عملية النهوض الاقتصادي الاجتماعي لديها بإرادة حاسمة دون تردد، و بعقلية منفتحة على المستقبل، ومنطلقة في فضاءات الإبداع. فبعد أن تمكنت الدولة هناك من تصنيع الاقتصاد ،وإنشاء صناعات كبرى باستثمارات أجنبية و وطنية ضخمة و منوعة،و بناء مشاريع بالغة التعقيد والضخامة من الناحية الهندسية والاستثمارية وتحويل الصين إلى ثاني اكبر اقتصاد في العالم، تغير وجه الصين التقليدي إلى وجه جديد يقارب العديد من الدول الأوروبية المتقدمة. ولعل شبكات الطاقة والطرق البرية و السكة الحديد السريعة والمجمعات السكنية الضخمة والمصانع الكبيرة المنتشرة في طول البلاد وعرضها هي من ابرز معالم الوجه الجديد للصين. كل ذلك ،إضافة إلى التعليم و التأهيل على كل مستوى ،أعطى الحجم السكاني الضخم للصين و البالغ 1400 مليون نسمة، ديناميكية جديدة تقوم على الحركية والتنقل للأشخاص والسلع، مما جعل التواصل السكاني والمهني والإنتاجي بين المراكز والأطراف والمدن والقرى، سهلا ومتاحا للصناعات الحديثة، التي أخذت تمتد من اعقد الصناعات الثقيلة، إلى ابسط السلع الاستهلاكية . إضافة، فإن مشاركة المرأة بكفاءة عالية ، وبنسبة تصل إلى 52% من قوى العمل البالغة 650 مليون نسمة، أعطى الفرصة لقوى العمل الصينية أن ترفع إنتاجها وإنتاجيتها، وأتاح الفرصة لزيادة الدخل الوطني بنسبة لا تقل عن 30% .الأمر الذي يمهد لنشوء و تنامي طبقة متوسطة قوية ليضع الصين على طريق اليسر والوفرة وبناء الثروة الفردية والوطنية خلال فترة قصيرة.
إن التغيرات المتسارعة التي تقع على الصعيدين العالمي و الوطني دفعت الدولة هناك إلى جدية الإستعداد للمستقبل من منطلق اجتماعي ثقافي للمحافظة على استدامة النمو. وهذا يتطلب إعادة النظر في التكوين الطبقي للمجتمع الصيني. وقد وصلت الدولة إلى قرار بالعمل خلال السنوات العشر القادمة على تسريع و تدعيم بناء الطبقة الوسطى ليصل حجمها إلى600 مليون نسمة أو ما بالقرب من 36% من مجموع السكان، وذلك بدلا من الوضع القائم الآن ،والذي ينقسم فيه المجتمع الصيني إلى طبقات رئيسية ثلاث :الأولى أصحاب الأعمال والمال والثروة وهؤلاء لا يتجاوز حجمهم 2% من السكان، والثانية الطبقة الوسطى الحديثة التكوين الضعيفة البنية وبحدود 18% ،ثم طبقة العمال والفلاحين والموظفين وهم الغالبية البالغة 80% من السكان.
وهنا لابد من إدراك الحكمة والرؤية الثاقبة وراء هذا القرار.ذلك أن الطبقة الوسطى هي التي تحمل عادة أعباء استدامة الإدخار و الإستثمار، و تحافظ على زخم التطوير والتحديث، و تتحمل مخاطر وأعباء الانتقال إلى مراحل أكثر تعقيدا في الأبعاد العلمية و التكنولوجية والثقافية. وخاصة بعد أن تكون الدولة قد اجتازت المراحل الأساسية في التحول الاقتصادي الاجتماعي. بمعنى أن المرحلة التي تعتمد فيها الدولة على توطين المصانع الأجنبية على أراضيها قد قاربت على الانتهاء. ولا بد أن يتبع ذلك المساهمات الوطنية الأصيلة في الإبداع الصناعي والتكنولوجي في تطوير المنتجات والأنظمة والمواد، وفي الاستثمارات في المشاريع الصغيرة والمتوسطة على أوسع نطاق، وفي خلق تيار قوي من الخبراء والمخترعين والمبتكرين والمجددين. ومثل هذه الأعمال لا يمكن القيام بها بشكل مضطرد ومتواصل إلا من خلال طبقة وسطى قوية ومتماسكة، تعمل كقوة دافعة جديدة للمجتمع.
هذا الاستيعاب الواعي لاستدامة النمو والتقدم يستحق الاستفادة منه، ليس فقط من أهل الفكر، وإنما من أهل السياسة والإدارة. فنحن في الأردن بعد أن كانت الطبقة الوسطى تبشر بحركة اقتصادية اجتماعية واعدة، انخرطت الحكومات في العديد من البرامج والسياسات التي أضعفت الطبقة الوسطى، وجعلتها تفقد حجمها وتأثيرها وحركيتها سنة بعد سنة، إلى آن تقلصت هذه الطبقة،لتصبح في حدود 17% من السكان، واقتصر وجودها على إمكاناتها المالية المتواضعة، بعيداً عن المهام الأخرى الأساسية وبذا تراجع زخم الاقتصاد الوطني،و تراجعت معدلات النمو إلى حدود أقل من 3% وخفت وميض الإبداع والمخاطرة. وحل محل الطبقة الوسطى الوطنية مستثمرو المال و العقار والأسهم، والنشطاء في الأسواق الثانوية، الأمر الذي أدى إلى الإخفاق الاقتصادي الذي تعايشه الدولة، متمثلا بالمديونية وضعف الإنتاج، وزيادة الطبقة الفقيرة سنة بعد سنة. هل يمكن الاستمرار؟ . لقد آن للحكومة و مؤسساتها أن تدرك خطورة الموقف و تستجيب إلى مطالبات المفكرين و الإقتصاديين و منظمات المجتمع المدني و ضرورات العدالة و الأمن الإجتماعي بوضع السياسات والبرامج التي تضمن أعادة الحيوية والحركية والحجم الصحيح للطبقة الوسطى لتصل إلى 40% آو 50% من المجتمع خلال السنوات العشر القادمة. و بذلك نعطي النهوض الإقتصادي الإجتماعي فرصة حقيقية لمستقبل أفضل.
د.ابراهيم بدران/النهوض الوطني… والطبقة الوسطى
17
المقالة السابقة