لم ينتظر أبو محمد الجولاني، زعيم جبهة النصرة (المحسوبة على تنظيم القاعدة في سورية)، طويلاً بعد مؤتمر المعارضة في الرياض، إذ ظهر في مؤتمر صحفي، غير مسبوق، مع إعلاميين لقنوات فضائية، معلناً ليس فقط رفض مقررات مؤتمر الرياض، بل والتعهد بإفشال تطبيقها على أرض الواقع.
هل ثمة غرابة في هذا الموقف الحاد من قبل الجولاني؟ لا أظن أنّ أحداً مطّلعا على واقع “جبهة النصرة” وأيديولوجيتها وأزمتها الداخلية، والمعضلات الكبيرة التي تواجهها في صوغ هويتها (بين انتمائها للقاعدة من جهة، وحرصها على الاندماج في المشهد المحلي من جهة أخرى) سيستغرب هذه النتيجة. فـ”النصرة” هي متضرر رئيس من هذا المؤتمر، الذي وصل إلى إعلان القبول بالديمقراطية والتعددية، وبإخراج المقاتلين الأجانب، والتفاوض مع بشار الأسد؛ لأنّه (المؤتمر) يمثل قفزة كبيرة لا تملك الحركة القيام بها، كونها ستنزل بعد ذلك إلى الأرض ممزقة إلى أشلاء، لا قيمة حقيقية لها على أرض الواقع!
صحيح أنّ هناك محاولات كبيرة بذلت خلال الأشهر الماضية، إقليمياً ومحلياً، في محاولة الضغط على “النصرة” لإعلان فك الارتباط بالقاعدة، والمزيد من التوجه نحو الاعتدال السياسي والديني. وصحيح كذلك أنّ هناك تياراً نافداً في الحركة اليوم يطرح تساؤلات جدية عن جدوى البقاء تحت راية “القاعدة”، طالما أن الجبهة محلية وأهدافها تتمثل في إسقاط الأسد. إلاّ أنّ الحركة لم تصل بعد إلى المرحلة التي يمكن أن تقبل بها مخرجات الرياض، أو جزءا منها، لأنّها تعني الانسلاخ تماماً من جلدها الأيديولوجي والثقافي، وبالتالي الانشطار الداخلي.
هل كان بإمكان الجولاني أن يصمت، مثلاً؟ كي لا يتهم بأنّه هو من خرّب مقررات الرياض، وأفشل فكرة السعودية وقطر وتركيا بتأمين وفد يمثل المعارضة السورية، السلمية والمسلحة، إلى محادثات نيويورك المنتظرة؟
الجواب: لا؛ لأنّ الجبهة تنظر إلى هذا المؤتمر بوصفه الخطر الأكبر على وحدة المعارضة السورية، ويهدد شبكات تحالفاتها في الشمال والشمال الغربي، وحتى في الجنوب، بالفشل والانهيار، ما يعني ضرورة توجيه رسائل للفصائل الأخرى، تعبّر بوضوح عن موقف الجبهة من جهة، ولأنّ الخصم الحقيقي لجبهة النصرة؛ تنظيم “داعش”، سيحاول الاستثمار في نتائج هذا المؤتمر، وقبول المعارضة السورية به، للقول بأنّه كان محقّاً منذ البداية في مهاجمة تلك الفصائل (فهي مشروعات لصحوات شبيهة بالحالة العراقية)، وأنّ منهج الجولاني ونصرته كان خاطئاً.
الرهان الذي بدا على حديث الجولاني، أول من أمس، هو على إفشال التطبيق العملي، بخاصة فيما يتعلّق بالفصائل التي وقعت على المقررات؛ إذ تحدث عن أن عناصرها لن تقبل بذلك. وهنا يبدو السؤال المطروح بقوة على موقف الشريك الاستراتيجي للنصرة في سورية، وهي حركة “أحرار الشام”، والغموض الذي يحيط بموقفها. إذ عاد وفد الحركة بعدما انسحب ووقع على البيان، إلاّ أنّ التصريحات الصادرة لاحقاً على مواقع التواصل الاجتماعي عن قيادات الحركة تؤكد عدم القبول بهذه النتائج، حتى وإن وقع عليها لبيب النحاس، المسؤول الخارجي للحركة والمعروف بمواقفه البراغماتية.
موقف “أحرار الشام” و”الجبهة الشامية” (في الشمال) يمثل مفصلاً مهماً في مصير “النصرة” ومستقبلها، ومن الواضح أنّ لحظة الحقيقة لم تدنُ بعد. إذ إنّ “أحرار الشام” (وهي أيضا مكون من “الجبهة الشامية”) أسبلت ثوباً من الغموض المتعمد على موقفها من المؤتمر بهدف تعويمه دولياً، لعدم إحراج شركائها وحلفائها الدوليين والإقليميين، ورمي الكرة في ملعب الطرف الآخر.
بالنتيجة، محاولات إعادة تأهيل “النصرة” تلقت ضربة قاصمة، لكنّها ليست القاضية؛ والأمور على الأرض أبعد ما تكون عما يتم إقراره في المؤتمرات الدولية.