في البداية، أطلقت تسمية اليسار واليمين على النواب في “مجلس الطبقات” الفرنسي، في نهاية العصر الملكي، نسبة إلى مواقع جلوسهم فيه، وكذلك في الجمعيّة الوطنية، إبّان ثورة 1789 وبعدها. ومن هنا، تلازم لفظ جناح مع اليسار واليمين في السياسة الأوروبية، فيقال: الجناح اليساري والجناح اليميني. إنها رواسب توزيع مقاعد النواب على يسار القاعة ويمينها في المصطلح المعاصر.
جلس في جهة اليسار من الصالة ممثلو الطبقة الثالثة، المطالبون عموماً بالجمهوريّة الذين آمنوا بالمساواة بين الطبقات السياسيّة، وطالبوا بإلغاء امتيازات الإكليروس والإقطاع، واستبدالها بحقوق المواطن، ودافعوا عن الحريّة الفكريّة وحريّة التعبير. في المقابل، ناصر الجالسون على يمينها بقاء الملكية وتراتبية النظام القديم. وتغيّرت هذه المواقف، وتعدّلت بمرور الزمن، فلم يعد اليمين يدافع عن تلازم الكنيسة والعائلة والملك، متّهماً اليسار بالمسّ بقدسيّتها، وتقويض أسس المجتمع. وفي مرحلةٍ ما، أصبح اليمين هو ذاته جمهورياً، وقبلت أوساط رئيسية فيه بقواعد النظام التعدّدي الديمقراطي.
كان هذا قبل أن يتحوّل اليسار واليمين إلى مصطلحاتٍ لأيديولوجيات ورؤى حزبية شاملة للعالم، واصلت الاستناد إلى هذا التراث. ففي ظل هذه الأيديولوجيات، أصبحت هذه كنية لحركات وأحزابٍ، يمكنها أن تتمسك بالتسمية، حتى عند الابتعاد ابتعاداً تامّاً عمّا يفترض أنها تعنيه، ولا سيما على مستوى القيم.
صحيحٌ أنّ اليسار يتميّز، عموماً، عن اليمين برفضه التراتبيّة السلطويّة والامتيازات المتوارثة، وبالتالي، بتفضيله الجمهوريّة، ويختلف عن الليبراليّة التي عُرفت، في القرن التاسع عشر، بتقديمه المساواة على الملكيّة الخاصّة والحريات الشخصية، بيد أنه لم يكن ممكناً على الإطلاق تخيّل اليسار من دون قيمة الحريّة. وكانت الحريات المدنية والحقوق السياسيّة التعبير الأهم عن هذه القيمة. وقد تعدّلت هذه العناصر، وتغيّرت بتفاعلها مع طبيعة البنية الاقتصاديّة والاجتماعيّة للمجتمعات الرأسماليّة، ومع تطور مفهوم المواطنة وتعميمه، وطبيعة الأنظمة السياسيّة. وقد تعلمت بعض تيارات اليسار، عبر طريقٍ وعرٍ وشاق، أن تفضيل قيمة المساواة على الحريات الفردية وهم، فالحريات الفردية ترتبط بالحريات عموماً، بما فيها الحريات والحقوق السياسية أيضا، وهذه الأخيرة شرط المساواة، فمن دونها يقوم نظام قمعي، لا يتساوى فيه المواطنون، إلا في كونهم مقموعين. ولا يلبث أن يُسترجَع نظامُ امتيازاتٍ في مقابل حرمان منها، بدلاً من نظام الحقوق للمواطنين.
وصحيح أن النظام الشموليّ الذي قام بعد الثورة البلشفيّة، ونشر نموذجه بعد الحرب العالميّة
“لم يكن شاوشيسكو يسارياً بل يمينياً، وليس كيم جونغ إل يسارياً، بل يمينياً متطرفاً، لا يختلف نظامه عن الأنظمة الفاشية المتطرفة، ولا حتى في الخطاب”
الثانية، سمّى نفسه بالاشتراكي والشيوعي، لكنّ الاشتراكية والشيوعية لم تنبع مباشرةً من تقاليد اليسار. فمن تقاليد اليسار الفرنسي إياه، نبعت الديمقراطيّة الراديكاليّة، وليس الاشتراكية. أمّا الاشتراكيّة والشيوعية فبدأت كنمط حياة عند بعض الفرق الدينية في العصر الوسيط، ويوتوبيا يتطلّع إليها كتّابٌ حالمون. وسيّسها لاحقاً لقاؤها بالديمقراطية، عبر تبنّي الأحزاب الاشتراكية الديمقراطيّة لها في القرن التاسع عشر ضد توحّش الرأسمالية. فاشتراكيو القرن التاسع عشر أضافوا إلى الاشتراكية الديمقراطيّة المتعلقة بمسألة نظام الحكم. عندها، أصبح بالإمكان تسمية الاشتراكيّة يساراً يتميّز بتأكيده على المساواة الاجتماعية إلى جانب الديمقراطية. أمّا الأحزاب التي طوّرت الاشتراكيّة إلى منظومة فكر وحياة شاملة، وأيديولوجية حزبيّة، فلم تتبنَّ الديمقراطيّة نظام حكم. ولاحقاً، أصبحت الاشتراكية، في عرفهم، أيديولوجية نظام شمولي.
وإذا نظرنا إلى الطبيعة الاستبدادية للنظام الذي تنعدم فيه الحريات السياسية والمدنية، والتقاليد الفكرية المحافظة، إلى جانب نظام امتيازات للقيادات الحزبيّة، أصبحت في بعض حالاتها وراثية، فإنّ التسمية الأصح لهذه الأنظمة، من هذا المنظور، هي اليمين وليس اليسار. فهذه الأنظمة يمينيّة بالمعنى الأصلي لكلمة يمين، أي أنظمة محافظة سلطوية معادية للحريّة، وأدى عداؤها للحريات المدنيّة وحقوق المواطن، في النهاية، إلى نسف فكرة المساواة التي تقوم عليها، واستبدالها بمنظومة امتيازات، سواء أكانت متوارثة أو غير متوارثة. لم يكن ستالين بهذا المعنى يسارياً بل يمينياً، وإن اختلف خطابه عن اليمين التقليدي. ولم يكن شاوشيسكو يسارياً بل يمينياً، وليس كيم جونغ إل يسارياً، بل يمينياً متطرفاً، لا يختلف نظامه عن الأنظمة الفاشية المتطرفة، ولا حتى في الخطاب. وهذا اليمين هو أسوأ بكثير من اليمين التقليدي البطريركي، واليمين الليبرالي الذي أصبح يقبل بالديمقراطية والحريات وتبادل السلطة مع اليسار، وحوّل قيمه اليمينية التي يدافع عنها إلى برنامج سياسي محافظ، يسعى جاهداً إلى تطبيقه، إذا وصل إلى الحكم. ولم يعد هذا، في حد ذاته، مضموناً دائماً، حتى إذا مارس السلطة.
لكن بعض القوى السياسية تصر أن تسمّي نفسها يساراً، حتى وهي تعتبر حقوق الإنسان والمواطن أمراً ثانوياً يجوز الدوس عليه، لمصلحة الحزب والتيار السياسي الذي تنتمي إليه. لقد وصلت بعض القوى إلى حد دعم تبرير ممارسة التنكيل بالمواطنين، بما في ذلك التعذيب والقتل، والتهجير الجماعي، وحتى شن نظام حرب إبادة ضد شعبه، متسمكةً بتسمية اليسار، وكأنه لقب متوارث.
هذه، بالمفاهيم الأصليّة للمصطلح، قوى يمينيّة، وليست يساريّة بأي حال. ويجب أن نضيف أنها قوى يمينية غير ديمقراطية أو فاشية، فثمة قوى يمينية ديمقراطية. هذه التسميات، بحد ذاتها، ليست مهمة، لولا أن بعضهم يستخدمها للتبجّح، مثلما يستخدم النسب العائلي أو الطائفي. فالأهم من هذا كلّه عدم السماح لمَن يؤيّد الدكتاتورية، ويبرّر جرائم الإبادة الجماعية، أن يكون في حالة تحريض على الآخرين. ومثله يجب أن يكون في حالة تبرير يائس، وغير مقنع للذات، أمام من يدينون مواقفه هذه، والتي لا تشفع لها التسميات. فالفضيلة والرذيلة، والخير والشر، سابقتان على اليسار واليمين. وتحوّل الأخيرة إلى مجرد مواقع جلوس، أو وقوف، إلى جانب هذا النظام أو ذاك أفرغها من مضمونها.