مَن مِنا لم يختبر الألم ولم يعرف وجعاً ما؟ مَن مِنا لم يفقد عزيزاً أو قريباً ويذق طعم اللوعة والأسى؟ الإنسان مفطور على الوجع، يخرج الى دنياه باكياً كأنه لا يريد مغادرة عالمه الرحمي الآمن الى حياة محكومة بالآلام والأوجاع، الولادة نفسها لا تتم من دون آلام مبرحة. كأن ما نعيشه من أحزان مُقدَّر ومكتوب، لا مفر منه ولا مناص. هي الطبيعة البشرية منذ آدم وحواء وحتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً. جميعنا اختبرنا أو سوف نختبر الألم، الجسدي منه والنفسي، وكلاهما مترابط متشابك، الأول يقود الى الثاني والثاني يردنا الى الأول، الفارق هو فقط في مقدرة كل منا على تحمل آلامه وكيفية فهمها والتعامل معها. لهذه الغاية وُلدت علوم وأنشئت تخصصات وجرت أبحاث وصدرت مؤلفات، لكن يبقى المتألم هو الأدرى والأعرف بألمه والأكثر فهماً له ودراية في التعامل معه، ليس عبثاً أن الديانات والميثولوجيات مجّدت المتألم وأعلت شأنه ووضعته في مصاف الأنبياء والقديسين حتى صار أيوب مضرب مثل في الصبر والجلَد وتحمّل الآلام والهجران وظلم ذوي القربى.
يوصف الشاعر اللبناني بولس سلامة بـ «أيوب القرن العشرين» لفرط ما تحمل من أوجاع وأرزاء بلغت به حد القول:» أيوب مَن أيوب ماذا خطبه/ هو قطرة وأنا خضّم بلاء»، ومثله كثيرون ممن جعلوا الألم تجربة روحية وإبداعية سمت بهم وسموا بها، فأنتجوا في غمرة الأوجاع ما عجزوا عنه وهم أصحاء. تسنى لي لقاء الكاتب المسرحي السوري سعدالله ونوس ومحاورته في الأشهر الأخيرة من حياته مصاباً بسرطان فتّاك خبيث صارعه أكثر من خمس سنوات كتب خلالها بعض أجمل ما أعطاه للمسرح العربي، من بينها رسالته في يوم المسرح العالمي حين قال جملته الشهيرة: «إننا محكومون بالأمل ولا يمكن لما يحدث الآن أن يكون نهاية التاريخ». بالفعل ما من نهاية حتمية في الحياة سوى الموت، كل ما عدا ذلك يمكن أن يكون بداية جديدة تفتح آفاقاً وتكشف أمداءَ ما كنّا لنبلغها لولا ذاك الإمتحان المتمثل في المرض أو في الخسارة والفقدان.
أجمعت الديانات السماوية على تمجيد الألم باعتباره امتحاناً إلهياً للكائن البشري، ولعل المسيحية هي الأكثر افصاحاً في هذا الشأن، المسيح نفسه ما جاء إلا ليفدي البشرية ويتحمل بعضاً من عذابات الانسان ويختبر آلام الجسد الفاني. في الإسلام المؤمن ممتحَن، والله اذا أحب عبداً ابتلاه. نعرف أسراً تتبارك بالمريض أو المُقعد أو المعوَّق من أبنائها وتتعامل معه بوصفه تميمة حارسة للبيت وأهله، ولئن قيل البيوت أسرار فإن ما من بيت يخلو من ألم ما. كان من حظي أن زرت بيوتاً كثيرة أثناء تقديمي لبرنامج «ست الحبايب» التلفزيوني وكانت غايته تكريم أمهات استثنائيات في بذلهن وتضحياتهن، وشاهدت بأم العين كيف تحتضن البيوت أوجاعها، وأجملها تلك التي تستقبلك بابتسامة وتودعك بمثلها على الرغم من دموع كثيرة تختبئ بين العين والهدب. زرتُ أماً لِصَبيّ لا يرى ولا يسمع ولا يتكلم ولا يستطيع الحراك، لكنه يبتسم حين تدخل أمه غرفته، سألتها وكيف يتعرف إليك؟ أجابتني: يشمّ رائحتي. مهما أوتيت اللغة من بلاغة وفصاحة لن تقوى على نقل ما تبذله تلك الوالدة المبتسمة الجاعلة أوجاعها مصدر إلهام وبركة.
متى حوّلنا الألم تجربة روحية استطعنا ترويضه وجعله فرصة للإنعتاق من أسر الجسد الى ما هو أرحب وأبعد مدى، ولئن كان فولتير اعتبر الألم ضرورياً كما الموت، فإنه على الأرجح كان ينطلق من اعتبار الألم مطهراً وممراً إلزامياً لمعرفة ما تعنيه العافية وما يستتبعها أو يشتق منها، وبالمعنى نفسه يقول جبران: «إن آلامك لا تقل روعة عن أفراحك».
نكتب عن الألم ونحن في خضّمه، نهر الأحزان في بلادنا بلغ الزبى، والدم يسابق الدمع، شظايا الأسى تطاول الجميع، ولا عزاء لنا بغير استنباط الأمل من جوف الألم.