يشكك كثيرون بدقة وصدقية تسعير الحكومة للمشتقات النفطية. ومن ثم، فإنه في كل مرة يتخذ قرار بزيادة أسعار هذه المشتقات أو إحداها، تقوم الدنيا ولا تقعد، وسط حالة من الاتهام والتكذيب للحكومة! وهي الحالة التي تتلاشى مع تخفيض الأسعار.
يحسب للحكومة الحالية شفافيتها في تسعير المحروقات، وكشفها آلية ذلك قدر ما تستطيع، منذ قرارها الجريء والخطير بتحرير سوق المحروقات وإخضاعها للأسعار العالمية، وبالتالي التخلص من الدعم الذي كان يكلف الخزينة نحو 800 مليون دينار.
لكن المشكلة أن الناس -وهذا هو الأهم- لا يصدقونها؛ فما يزال الشك في نواياها حاضرا مع كل خطوة تخطوها، ربما لأن قراراتها القاسية لم تنعكس تحسناً في أرقام الموازنة العامة وعجزها.
القرار الأخير المتعلق بزيادة سعر أسطوانة الغاز بمقدار نصف دينار، كان تطبيقا لآلية التسعير التي تعتمدها الحكومة منذ نحو ثلاث سنوات. وكلنا يذكر بدايات ذلك، حينما كانت أسعار النفط العالمية محلقة لمستويات تقلق الأردن الشعبي قبل الرسمي، بعد أن صار المواطن يتحمل كامل كلفة استهلاكه من المحروقات. حينها بلغ سعر أسطوانة الغاز نحو 11 ديناراً. ومتوقع ارتفاع السعر مجدداًَ في المستقبل عما هو عليه الآن؛ فهل ستتزايد حالة الرفض الشعبي كلما ارتفع السعر العالمي لهذه المادة الاستراتيجية؟ وهل ستتراجع الحكومة في كل قرار؟
الحكومة تعاملت مع الموقف الشعبي الرافض لخطوة الرفع الأخيرة بدهاء شديد؛ فهي تراجعت ولم تتراجع! بمعنى أنه ليس هناك خسائر مالية ترتبت على إلغاء زيادة “النصف دينار”، بل ربما يكون الإيراد قد زاد باحتساب الضرائب على المشتقات الأخرى التي توزعت عليها الزيادة الملغاة. لكن ما خسرته الحكومة أكبر بالقيمة المعنوية وليس المالية، بعد أن بدا، ولو شكليا، أنها تتراجع عن قراراتها.
بالعودة إلى سؤال: لماذا كذّب الناس الحكومة وشككوا في سعر الأسطوانة، رغم ارتفاع أسعار الغاز عالميا بنسبة 17 % خلال الشهر الماضي؟ فإن هناك مجموعة أسباب لحالة الرفض السائدة هذه.
أولا، سبب يتعلق بكل ما تفعله الحكومات، وهو الثقة المفقودة التي لم تستطع الحكومة الحالية استعادتها رغم محاولاتها المتكررة لذلك.
ثانيا، أن نسبة الضرائب المرتفعة على المشتقات النفطية، وتحديدا البنزين، ترفع من قيمة هذه السلع بنسب كبيرة مقارنة بالأسعار العالمية. إذ تفرض الحكومة ضريبة بنسبة 42 % على بنزين “95”، وبنسبة 24 % على صنف “90”.
ثالثا، أن شرائح واسعة من المجتمع، تشكل ما يزيد على 75 % من المواطنين، بالكاد تكفيها مداخيلها لتغطية كلف عيشها. ولذا، صارت ردود أفعالها غاضبة حيال أي قرار يمس هذا الدخل، بشكل كبير أو صغير. فليس بالضرورة أن يكون قرار واحد محدد سببا لكل هذا الرفض، بل الحال كما يقال “مو رمانة هيّ قلوب مليانه”. فهناك الإحباط والاحتقان نتيجة ارتفاع معدلات الفقر والبطالة، وإضعاف الطبقة الوسطى بسبب السياسات الحكومية، كما عدم محاسبة الفاسدين بمن فيهم من صدرت بحقهم قرارات قضائية.
رابعا، استغل نواب الجو الشعبي الساخط، وسعوا إلى تصعيده أكثر، طالما أن الأمر حملة شعبية مضمونة في الربع الأخير من عمر مجلس النواب.
فالحكومة لم تكذب هذه المرة، بل تعاملت بشفافية كبيرة بشأن تسعير المحروقات. بل أكثر من ذلك هي تحملت جزءا من التكلفة، كون الأسعار العالمية الدقيقة ترفع سعر أسطوانة الغاز إلى حوالي 8 دنانير.
خامسا، تبدو الحكومة مرتبكة في كيفية تحصيل الإيراد المطلوب. ففي الوقت الذي تعفي الجلود والحقائب الباهظة والأحذية، من رسوم جمركية، فتخسر عشرات ملايين الدنانير، تجدها تصر على كسب نحو مليون ونصف المليون دينار من أسطوانة الغاز، وحوالي 20 مليون دينار من ترخيص السيارات! الأمر الذي يعكس غياب الرؤية الشاملة المتكاملة لإدارة سبل تحصيل الإيرادات بما يخدم الأهداف المحددة في الموازنة العامة.
لكل هذه الأسباب لم يصدّق الناس الحكومة. وهذه معضلة يتطلب التغلب عليها عملاً على امتداد عهود أكثر من حكومة.