خاطبت الملكة المعلمين (خلال ملتقى مهارات المعلمين، في البحر الميت أول من أمس) بالقول: “حربنا ضد الأفكار الهدامة حتماً تستدعي الجيوش والعتاد، لكن ساحة المعركة وحتى بعد أكبر انتصار، لا توفر سوى الحلول المؤقتة، هي تضمد الجرح فقط ولا توقف النزيف.. لكنكم أنتم تعملون على إجهاض أيديولوجيتهم وعدم السماح لها بإبصار النور”. وخلصت في حديثها إلى اعتبار المعلمين بمثابة خط “الدفاع الأول” عن البلاد، وعن قيم المجتمعات ومستقبلها ومصيرها.
حديث الملكة يمسّ أكثر من جانب مهم وحيوي، وفي المقدمة موضوع الحرب على الإرهاب والتطرف، ويلتقط “الحلقة المفقودة”، عربياً ودولياً ومحلياً؛ أي التركيز على بناء جيل متسلح بالعلم والعقل المنفتح والفهم الصحيح للدين، لديه حصانة من عملية غسل الدماغ التي أصبح تنظيم “داعش” بارعاً فيها.
يتزامن هذا الخطاب مع عرض “داعش” فيديو الشاب محمد الضلاعين، الذي ترك دراسة الطب، وذهب إلى التنظيم، ولم تفلح محاولات والده والدولة في استعادته. ثم زعم التنظيم أنّ الشاب نفّذ عملية انتحارية ضد القوات العراقية. فمن يرصد حديث محمد في الفيديو المصور، يشعر بالصدمة من حجم غسل الدماغ الذي حدث له. وبدلاً من أن تكون قصة الشهيد معاذ الكساسبة محفزاً له لمواجهة هذا التيار، دفعته للانضمام إليه. وهذا يستدعي قراءة معمّقة تتجاوز الأجوبة المعلّبة، لطرح السؤال المهم: لماذا خسرنا معركة الدعاية السياسية والنفسية ضد التنظيم؟
بالضرورة، هذه الآفة لا نعاني منها وحدنا، فإلى الآن ما تزال قصة إقدام سيد رضوان فاروق وزوجته تاشفين مالك على قتل وإصابة العشرات في كاليفورنيا، أشبه بالأحجية، مع بروز مؤشرات وتساؤلات عمن أصاب الآخر بالعدوى؛ الزوج أم الزوجة. لكن في المحصلة، حدث الاختراق النفسي والفكري لهما، كما حدث قبلهما لعشرات الآلاف من الشباب حول العالم.
نعلم أنّ هناك برنامجاً وعظياً للسجون في حوار أصحاب هذه الأفكار، لكنّه إلى الآن ضعيف هشّ، ونتائجه محدودة، يعتمد على اجتهادات شخصية، فيما نحتاج إلى ما هو أبعد من ذلك بكثير؛ إلى برنامج متكامل يشترك فيه علماء ومثقفون وأكاديميون، يقرأون ويحللون أساليب الدعاية والتجنيد لدى هذا التيار، ويضعون البديل دينياً. لكن قبل هذا وذاك، دعونا نبدأ بالمدرسة؛ بمناهجنا وتعليمنا، بعقول أبنائنا لتحصينهم من هذه العدوى الخطيرة. ليس فقط بالكتب الدينية، بل جميعها، لتعليم الجيل الصاعد كيف يفكر نقدياً وعلمياً، وكيف يتجاوز عوارض الانهيار النفسي والفكري، لا أمام الفكر المتوحش فحسب، بل أي نوازع فكرية ونفسية شبيهة.
هذا وذاك يقودنا إلى الشق الآخر في خطاب الملكة رانيا، وهو الضلع الأضعف اليوم، أي المعلمون. والمفارقة أنّنا نتحدث عنهم ونحن نقرأ عن المعركة المفتوحة في مدارسنا والعنف المستشري هناك. فالأخبار اليومية إما تتحدث عن معلم تعرض لاعتداء همجي أو طالب في المستشفى. ومثل هذه الأوضاع لا يمكن أن تبقى خارج إطار التفكير والنقاش والدراسة، ولا يجوز أن يستمر التعامل مع هذا الملف وكأنّه “Low Profile“، على حد تعبر المسؤولين. فإذا أردنا أن يقوم المعلم بمهمته، من المفترض أن نعيد النظر جذرياً اليوم في أوضاعه المالية والنفسية والاجتماعية، كي نتمكّن، بالفعل، من أن نطالبه بالعطاء والإنجاز، ونأتمنه على أبنائنا، وحتى لا نرى العكس تماماً؛ معلمين محبطين محتقنين فيغرزون هذه الروح لدى الجيل المقبل!