ذبل فتيل الأزمة بين الحكومة ومجلس النواب، بانتصار نسبي للمجلس بعد تراجع الحكومة عن رفع سعر أسطوانة الغاز نصف دينار، وكذلك تراجعها عن قرار تعديل رسوم ترخيص بعض فئات المركبات. وهو ما تم الإعلان عنه على إثر اجتماع الحكومة مع المكتب الدائم للمجلس أمس، وتلويح أغلبية النواب بحجب الثقة.
بعيداً عن هذه النتائج الإيجابية التي خفّفت، مؤقتاً، الاحتقان لدى الرأي العام من الحكومة وسياساتها المالية، والأوضاع الاقتصادية المتدهورة؛ فإن من المفيد أن نقرأ مشهد الساعات الماضية من زاوية أخرى، وهي سلوك السياسيين الأردنيين، سواء من المؤيدين أو المعارضين للحكومة وسياساتها.
ففي مثل هذه الأوقات، يتحول المشهد السياسي إلى ما يشبه “حلبة الملاكمة”؛ من يسدد من السياسيين لكمة لرئيس الوزراء وفريقه، ومن يحاول الدفاع من الفريق المؤيد. أطرف ما في هذا المشهد أنّك لا تعرف لماذا يؤيد فلان الحكومة ويعارضها آخر، إلاّ أن تبحث عن أسبابهما الشخصية والذاتية، لا عن قناعاتهما ومواقفهما الفكرية والسياسية!
فقد يفتح أحد السياسيين أو الوزراء المتقاعدين الكبار النار على الحكومة من باب استثمار المناخ الغاضب، أو يتصدى سياسي أو مسؤول أو وزير للهجمة الحالية بدرجة كبيرة من النزق والعصبية لكل رأي نقدي يقال في وجه هذه السياسات الحكومية. أو قد ينتقد مسؤول أو وزير أو سياسي سابق من أشد المؤيدين لصندوق النقد الدولي والسياسات الليبرالية الحكومة! بينما لو كان مكانها لفعل أكثر من ذلك. أو آخر معروف بكراهية الديمقراطية والرأي الآخر وعدم الإيمان أصلاً بحق الناس في التعبير، يتحدث عن أخطاء الحكومة وعن حرية النقد والتعبير!
وفي المقابل، قد تجد من يؤيد السياسات الراهنة، التي تعتمد برنامج إصلاح مالي يقوم على الضرائب والرسوم، إلى درجة رفع كل شيء، من أبناء التيار المحافظ أو النخب المعادية أصلاً لليبرالية وصندوق النقد الدولي!
كيف نفهم هذه “المواقف المتضاربة” و”المتقلبة”؟ فقط من باب واحد لا أكثر؛ الاعتبارات الشخصية، سواء كانت “مع” أو “ضد”. هذا ينطبق على نسبة كبيرة من النواب (مع استثناءات)، وعلى جزء كبير من الطبقة السياسية، بخاصة المسؤولين والسياسيين المتقاعدين، ودورهم في تحريك الإعلام ودفعه يميناً أو يساراً. وربما هذه “الانتهازية” الشخصية، إن أردنا التوصيف الدقيق، هي التي تمثّل اليوم إحدى آفات النخبة السياسية في الأردن، وهي ناجمة عن غياب المنطق السياسي؛ فيبدأ الموضوع الشخصي يتغلّب ويصبح المعيار في علاقة الحكومة بالنخب، وفقاً للقاعدة “إن أعطوا رضوا وإن لم يعطوا سخطوا”، أو بالمثل الشعبي “يا خرّيب يا لعّيب”. ومن السهل أن تجد الشخص اليوم في أقصى اليمين وغداً على أحد أطراف اليسار، من دون أن تفهم بمنطق المواقف السياسية: لماذ؟!
في ظل ضعف الأحزاب والقوى السياسية التي تحمل مواقف سياسية واضحة، سواء على صعيد إيديولوجي أو حتى برامجي، فإنّ الساحة السياسية تصبح أشبه بالسيرك. فعندما تضعف مؤسسات المجال العام وتختفي قدرتها على التأثير، فإنّ الشخصنة والمعايير الذاتية، لا الموضوعية، هي التي ستطغى في العلاقة بين الحكومة ومجالس النواب والطبقة السياسية المتشظية والمفككة أصلاً!
هل ذلك يدلّ على انحراف سياسي في معيار علاقة الحكومات المتعاقبة، بل الدولة، مع الطبقة السياسية والنخب المقربة منها، بدرجة كبيرة؟! صحيح. لكنّ ما هو أخطر من ذلك؛ انحراف أخلاقي، يكشف أزمة حقيقية في الدولة والطبقة السياسية، لأنّ العلاقة تقوم اليوم على منطق المنافع والمضار الشخصية بدرجة رئيسة!