تَشعُر جمهورية الصين الشعبية بثقة كبيرة بالنفس، وتنطلق من فلسفة سياسية تضع مصلحة الصين الذاتية واستمرار التنمية الاقتصادية ورفع معدلات النمو القومي السنوي فوق كل شيء، مُنطلقة من مفاهيم “الاشتراكية بخصائص صينية” كحزمة أفكار وخطة عمل في إدارة الحكم والاقتصاد والتنمية المجتمعية والعلاقات الدولية على مستوى المعمورة بأسرها.
فالصين تُرَكّز على ضرورة ضمان استمرار التنمية الاقتصادية وتوافد الاستثمارات للصين، ونمو الاستثمارات الصينية بالخارج، فضلًا عن إعطاء الأولوية لمتطلبات بناء الدولة وتحقيق التنمية المجتمعية الشاملة، خصوصًا في الأرياف الصينية الداخلية ومناطق الأقاليم الشرقية البعيدة عن المركز والمدن الكبرى في البلاد والواقعة على بحر الصين شرق البلاد.
وبالفعل، وبالرغم من الهزات العنيفة التي ضربت الاقتصاد العالمي وخاصة منطقة اليورو، بما في ذلك أسواق المال (وول ستريت) منذ العام 2008، إلا أن النمو الاقتصادي في جمهورية الصين الشعبية ما زال متواصلًا ولو وقعت عليه بعض التراجعات قياسًا لفترات مُعينة في العام الواحد. فيما حافظت الصين على تصدرها للموقع الأول من حيث حيازتها للعملات الصعبة وخاصة منها الدولار الأميركي، وذلك في بلدٍ يُشكّل سكانه نحو (20%) من عدد سكان المعمورة تقريبًا، حيث سجّلت حصّة الفرد من الناتج المحلي الإجمالي نموًّا سنويًّا معدله (8%) منذ عام 1978، وانعتق مئات الملايين من الفقر، لتتجه الصين بعد ذلك لتصبح الأكبر اقتصاديًّا (وهي ربما الأكبر حاليًّا وفقًا لبعض الحسابات)، وحسبنا أن نورد المثال التالي: إن مليون شاغر جديد هو عدد الوظائف التي ولّدها الاقتصاد الصيني خلال عام 2014. وهو رقم هائل يفوق ثلاثة أضعاف سكان لبنان على سبيل المثال. حيث ما زالت الصين تحتاج إلى هكذا مؤشرات لتحافظ على نشاطها في إطار العولمة.
إن من أهم عوامل ومصدر الحفاظ على استمرار النمو الاقتصادي العام في الصين ولو بوتيرة مُتقلبة يعود لعدة أسباب، اولها أن الاقتصاد الصيني مُتنوع. وثانيها أن الصين بدأت منذ وقت طويل على ترخيص وتشجيع عمل مجموعات من شركات القطاع الخاص العملاقة إلى جانب شركات الدولة، قادرة على منافسة أكبر الشركات الأميركية أو اليابانية أو غيرها، وعلى سبيل المثال تمكنت شركات التجارة الإلكترونية التي سجل بعضها إنجاز أكبر اكتتاب عام أولي في التاريخ، وجمعت منه (25) مليار دولار، ليتجاوز رأسمالها في السوق (200) مليار دولار. وثالثها أن القوانين الاقتصادية وقواعد الاستثمار باتت موضع جذب واهتمام من قبل الشركات الكبرى في العالم مترافقًا مع الانفتاح على الأسواق العالمية وهو ما جعل من الصين أسطورة في علم الإدارة الاقتصادية الاجتماعية رغم مشاكل الفساد المرافق. ورابعها أن الصين تعمل بدأب كبير على زيادة استثماراتها الخارجية في مجالات عدة مع عشرات الدول في العالم. وخامسها أن الصين تنأى عن نفسها في المواجهات السياسية الكبرى لصالح الاهتمام بالنهوض العام في البلاد، وتبريد المشاكل مع مختلف الأطراف حتى مع الولايات المتحدة، وإبقائها تحت السيطرة وبعيدًا عن الانفلات انطلاقًا من براغماتية عالية باتت أساسًا تميز السياسات الصينية المتبعة منذ العام 1985 تقريبًا، وتحديدًا منذ تبني القيادة الصينية برنامج الإصلاح الاقتصادي وسياسة الانفتاح المدروس.
وفي هذا المسار، إن بكين تسعى دومًا للحفاظ على الاستقرار السياسي كضرورة لإبقاء التنمية الاقتصادية مُستدامة، وضمان وحدة الحزب الحاكم وتماسكة، والتأكيد على دورية القيادة والتغيير في الحب والدولة عبر المؤتمرات العامة المتتالية للحزب الحاكم، والتأكيد على مركزية الحكم والقيادة الجماعية والتكتم على القرارات والتباينات والخلافات الداخلية، ومنع تصديرها للخارج تجنبًا لدخول الأطراف المنافسة للصين على خطها. وهنا تأتي الجهود الدائمة في الصين في التركيز على هيبة السلطة وإعطاء الأولوية لحرية القرار السياسي وأمن الدولة، وبالتالي إخضاع السياسة للاقتصاد، وإخضاع المبادئ للمصالح ببراعة براغماتية يعتبرها البعض بأنها تجانب القيم والمبادئ.
إن الصين ومنذ سياسات الانفتاح أواخر سبعينيات القرن الماضي، تتجنب الخوض في القضايا والأزمات الدولية التي لا تؤثر مباشرة على أمن الصين ومصالحها الاقتصادية، وتدرك في الوقت نفسه أن هناك حالة من المنافسة تدور بين عملاقين: الولايات المتحدة الأميركية وجمهورية الصين الشعبية في مضمار الاستثمارات والصعود المالي والاقتصادي، وقد بذلت بكين وما زالت في هذا الجانب جهودًا كبرى لمنع تحويل الحديث الاستراتيجي عن هذه المنافسة وتوقعاتها إلى واقع نهائي ومحتوم، حيث يعتقد البعض بأن بكين واعية لهذا الاحتمال، وهي حريصة على أن تَظَل المنافسة قائمة على قاعدة (الفوز للجميع) لكن بالمقابل لا أحد لا يستطيع التيقن من قدرة الطرفين ونقصد الولايات المتحدة والصين الشعبية على احترام هذه القاعدة والالتزام بها.
إن تلك الفلسفة الصينية دشنت عمليًّا منظومة جديدة للسياسة الخارجية الصينية منذ العام1980 تقريبًا، وقد فَرَضَت على بكين تجنب الدخول في نزاع سياسي أو اقتصادي مع الولايات المتحدة، على الأقل في المرحلة الراهنة بالرغم من نيران التباينات تحت الجمر المُتقد.
وبالطبع فإن الحديث أعلاه لا يعني بأن الصين خارج سياق التطورات السياسية في مناطق التوتر في العالم، ومناطق النفط كالشرق الأوسط. فالصين تعتبر نفسها دولة عظمى وعليها مسؤوليات دولية، يجب أن تمارسها بما يتناسب ومكانتها في العالم. وللنظر إلى الرقم التالي الذي يشير لوجود أكثر من 600.000 مواطن صيني يخدمون في الخارج في مؤسسات المعونة الصينية. وأهميته هنا تأتي في إطار دور الصين في التنمية ومكافحة الفقر في العالم.
وخلاصة القول، تقف الصين اليوم أمام تحديات جديدة، في قلبها التباطؤ الاقتصادي. حيث من الصحة القول بأن معدلات النمو التي تحققها الصين حاليًّا لا تراها البلدان المُتقدمة والبلدان النامية الأخرى، إلا أنها دون المقومات المطلوبة للمحافظة لتبقى هذه الماكينة الآسيوية في تألقها الإنتاجي المعهود. كما أن الابتعاد عن المشاركة في ميادين الفعل الدولي وأزمات المعمورة لن يعفيها من تبعات تلك الأزمات التي تنعكس بالضرورة على مجمل دول العالم وخصوصًا الدول الكبرى منها.
علي بدوان/تداخل السياسة والاقتصاد في الصين
14
المقالة السابقة