بقلم: خوان كول/ أستاذ التاريخ في كلية ريتشارد بي ميتشيل، وهو مدير مركز الدراسات الشرق أوسطية والشمال أفريقية في جامعة ميتشيغان
بعد هجمات 11/9 الإرهابية في نيويورك، رفض الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك “الحرب على الإرهاب” التي اقترحها الرئيس الأميركي السابق جورج دبليو بوش آنذاك، وحث الولايات المتحدة على معاملة الإرهاب كنوع من الأعمال الجنائية. وربما كان رفضه الانسجام مع استخدام مستشار بوش، كارل روف، الأورويللي للغة هو الشيء الوحيد الذي سيتم تذكر شيراك به، لكنه يظل يشكل إرثاً كافياً ببعض الطرق. وعلى العكس من ذلك، وبعد الهجمات الإرهابية التي وقعت مؤخراً في تشرين الثاني (نوفمبر) في باريس، ارتكب الرئيس الفرنسي الاشتراكي، فرنسوا هولاند، الخطأ الفادح المتمثل في إعلانه أن فرنسا أصبحت راهناً في حالة حرب. ولا يجب أن تمنح الدول الحقيقية مثل هذه الشرعية لعصابات صغيرة من المجرمين العنيفين، كما سيكون نشر لغة وتكنيكات الحرب أفضل طريقة لخسارة الحملة ضد هذه العصابات.
إن لغة الحرب كفيلة بأن ترفع الإرهابيين إلى المكانة نفسها التي يتطلعون إلى تحقيقها: مكانة المقاتلين الشرعيين. وفي الأثناء، تقوم البيوت الساخنة المحمومة للتطرف، سواء في أحياء الأكواخ البلجيكية أو في المساجد الأصولية والسلفية في الدول العربية الأصولية، بإنتاج سرد يخدم كتبرير للعمل العنيف. ويتم تصوير بلد مثل فرنسا على أنه منخرط في أعمال وحشية؛ حيث يقوم بقتل الأطفال والنساء العزل من الجو. وبذلك، يجد المراهقون السذج الذين يمكن خداعهم بسهولة أنفسهم أمام تحدٍ من يعرضه مجنَّد جهادي، والذي يثير فكرة الحاجة إلى القيام بشيء ما من أجل وقف هذه الاعتداءات ووضع حد لها. وبعد ذلك يُحتفى بهؤلاء كأبطال وجنود ينقذون شعوبهم. فالحرب، بعد كل شيء، هي السياق الاجتماعي الوحيد الذي يسمح بأن ترتكب الأعمال الفظيعة باسمه. وفيها، يتم تصوير المدنيين الأبرياء الذين يقتلهم هؤلاء المجندون على أنهم مقاتلون من الأعداء: ألم ينتخب هؤلاء الناس أنفسهم الحكومة التي ترتكب هذه الأعمال العدوانية؟ ألا يدعمونها؟ وحتى لو كانوا أبرياء في الحقيقة، ألا يكون من الضروري التضحية بهم من أجل إنتاج ردة فعل شعبية ارتدادية تدفع الحكومة إلى المبالغة في رد فعلها بطريقة محبذة لدى الإرهابيين؟
لم يكن الشباب الذين جندهم اللص الصغير المقتول عبد الحميد أبا عواد جنوداً، كما يمكن القول. لقد كانوا أشخاصاً جانحين تم تجهيزهم بالقنابل والمدافع الرشاشة بدلاً من السكاكين. كانوا أناساً مهمشين، أناساً مهملين بفعل الرأسمالية الراكدة في بلجيكا، والذين لم يُمنح لهم وأي هدف في الحياة في بيئاتهم الضحلة، وإنما تعرضوا للإذلال بالعنصرية المبتذلة، وحرموا من كرامة وعزة العمل المنتج. وفي حالة بلجيكا، تلقى هؤلاء تعليماً بائساً في نظام مدرسة متوسط المستوى تديره الدولة. وثمة آخرون من البيئة نفسها ممن صنعوا حيوات محترمة لأنفسهم (عائلة أبو عواد نفسها التي تشعر بالعار من ابنها، كانت قد تمنت في العام الماضي أن يكون ميتاً)، ورأوا في ظروفهم تحدياً وليس ذريعة لارتكاب الجريمة. ولا يستحق أبو عواد ولا أي من شركائه في الجريمة أي أوسمة عسكرية.
يضفي الحديث عن حرب ضد هؤلاء المجرمين كرامة لا تضمنها لهم اختيارات حياتهم البائسة، وتغلف أفعالهم بالمجد. وقد خطط هؤلاء لتنفيذ مشهد في أستاد لكرة القدم؛ حيث ينسفون أنفسهم سوية مع مشاهدين آخرين في المدرجات، أمام كاميرات التلفزة بحيث يتسيدون الحدث العالمي. لكن واحداً منهم فقط استطاع الحصول على تذكرة لحضور المباراة، ولم تكن الشرطة الفرنسية حمقاء تماماً بحيث يمكن أن تسمح بدخول شخص يحمل حزاماً ناسفاً تحت معطفه. وكان على القتلة المرعوبين أن يفجروا حمولاتهم بلا فائدة خارج الاستاد، كما أن بعضاً من قنابلهم لم تنفجر، مما أفضى إلى مقتل حاملها فقط. أما الآخرون، فقد نشروا الروع في مطاعم ودور مقاه وصالة موسيقى من دون تصويرهم بالكاميرات، وبذلك حرموا من إنتاج فيلم رعب متلفز. ومع ذلك، وفر لنا التلفاز الأميركي من يسمَّون خبراء مكافحة الإرهاب، الذين أعلنوا أن هذه المجزرة الخرقاء قد خطط لها ونفذت بشكل فائق.
بالكاد يمكن اعتبار الجرائم التي ترتكب في مطعم عملاً حربياً، والذي يمكن أن يقوم به أي شخص يحمل سلاحاً نارياً. وعلى نحو روتيني، تقوم عصابات الدراجات الهوائية لدينا والمرضى العقليون -الذين تصر رابطة البندقية القومية الأميركية على تزويدهم بأسلحة هجومية ومخازن ذخيرة إضافية- بتنفيذ ذلك النوع من الجنون في الولايات المتحدة. لكننا لا نعلن الحرب عليهم، ولا حتى نتخذ خطوات عملية لوقفهم. ويحمل الإرهابيون في باريس تشابها أكثر بكثير مع أعضاء عصابات الدراجات الهوائية ومطلقي النار الجماعي غير المتزنين أكثر مما يشبهون ناشطي القوات الخاصة لدولة محترمة.
خطاب هولاند عن الحرب يدمج بين اثنين من التحديات السياسية، مختلفين تماماً. واحد يدور حول التعامل مع الأمن في أوروبا والعمل ضد تطرف سكان المناطق الفقيرة؛ والآخر هو إلحاق الهزيمة بأتباع أبو بكر البغدادي وما تدعى دولته الإسلامية في شرقي سورية وغربي العراق. وحتى في الحالة الأخيرة، فإن الخطاب السياسي يهم: من الخطأ الكبير أن تقدم على تعظيم تلك المجموعة -الأقرب إلى قراصنة الصحراء منها إلى حكومة-دولة قد يشن المرء عليها حرباً مثل ند. والبغدادي هو الاسم الحركي لأكاديمي عراقي صغير، إبراهيم السامرائي، الذي لم يمض وقتاً معقولاً في برنامج جيد للدراسات الإسلامية. ويضحك باقي العالم الإسلامي على إعلانه الذي قاله بينما يتباهى بساعة رولكس على معصمه بأنه خليفة وارث لهارون الرشيد.
أن يصف البغدادي عصابته من المتاجرين بالبشر والمغتصبين ومهربي المخدرات والسارقين بأنه “الدولة الإسلامية”، فذلك يشبه كارتيل المخدرات المكسيكي الذي يتبنى لقب “الفاتيكان”، ثم تبنينا لذلك المصطلح فيما بعد (“الفاتيكان خطف 30 شخصاً اليوم”) عندما نغطي أعماله العنيفة. ويجب على الصحفيين أن يقاوموا هذه القهرية اللغوية في حالة الكاثوليكيين؛ كما يجب عليهم أن يقاوموها أيضاً في حالة المسلمين. والاسم الذي يعطى للمجموعة باللغة العربية هو “داعش”، وهو ما يتوجب علينا تسميتها به أيضاً لتجنب أن نعمل كمروجين لها. وبالنسبة للاعتراض القائم على أن “داعش” يسيطر على أراضٍ، تمكن الإجابة عنه بأن مجموعات إرهابيي المخدرات في الجنوب العالمي غالباً ما يفعلون الشيء نفسه من دون أن يتم تمجيدهم والتعامل معهم كدول.
إن إعلان “حرب” على الإرهاب، والذي يشخص -على سبيل المثال- كل اللاجئين السوريين على أنهم مقاتلون محتملون، إنما يصب في صالح المجندين مثل أبي عواد والذين يستهدفون “تعميق التناقضات” بين المسلمين وبين أصحاب التراث المسيحي. ويجب علينا بدلاً من ذلك ملاحظة أن بعض السوريين قد انضموا إلى الكارتل الجنائي الذي استولى على بعض البلدات الصحراوية تحت تهديد السلاح، لكن معظم السوريين لم يفعلوا ذلك. وفي الحقيقة، صوتت أعداد ضخمة ضد ذلك بأقدامها. فعندما استولى “داعش” على الموصل، هرب نحو 500.000 من المواطنين في الحال، رعباً واشمئزازاً، بينما خرج المزيد لاحقاً من المدينة. وكان مئات الآلاف من السوريين -وليس من الأكراد- قد هربوا من محافظة الرقة (عدد السكان قبل العام 2011 كان 900.000 نسمة) التي تعتبر المقر الرئيسي لمجموعة “داعش”. وهؤلاء هم اللاجئون الذين يقف الساسة الأميركيون على ظهورهم الآن. (وربما يكون كارتل “داعش” قد اختطف نحو 3 ملايين شخص -ليس الثمانية ملايين الذين يذكرهم العديد من المراقبين، نظراً لأن المراقبين أهملوا أعداد الناس الذين هربوا من أراضي الخلافة الوهمية).
يزدهر داعش في المناطق التي فقدت فيها الدولة المركزية شرعيتها وانهارت. ومن جهتهم، يأنف العرب السنة الريفيون في شرقي سورية من “داعش”، لكن البعض منهم يكره “داعش” أقل من كرهه للستالينية المجرمة لحزب البعث الذي ما يزال يسيطر على دمشق. وقد يكون الموصليون بائسين في ظل السامرائي، لكنهم سيذلون أيضاً وسيهمشون من جانب الميليشيات الشيعية المتشددة التي تملي السياسة في بغداد.
حتى تتمكن أي دولة من دحر “داعش”، فإنها تحتاج إلى التعرف على شعبيته في بعض الأماكن. فبالنسبة لأقلية من العرب السنة في الأراضي اليباب التي تركتها خلفها حكومات عاجزة وفاسدة ومفرقة، يكون “داعش” أقل الشرين.
يتصرف أولئك الذين يطالبون بإجابات سهلة أو نتائج فورية في سورية والعراق بطريقة طفولية، كما أن خطاب الحرب يعد صبيانياً. ولو كان من السهولة بمكان إلحاق الهزيمة بتنظيمات مثل “داعش” لكان من الممكن تفادي العديد من النزاعات المعاصرة وطويلة الأمد. وفي جمهورية الكونغو الديمقراطية، توجت مجموعات على غرار “داعش” الصراع، بدءا من التسعينيات وحتى العام 2003، مطوقة وسط وجنوب أفريقيا بمعركة دموية أفضت إلى مقتل 5.4 ملايين شخص. وتحمل إحدى تلك المجموعات، جيش الرب للمقاومة في أوغندا، شبهاً خاصاً بتنظيم “داعش” بالرغم من وجود خلفية مسيحية. وكانت الحكومة الكولومبية قد أمضت عقوداً وهي تحاول القضاء على المجموعة الثورية المتطرفة في البلد (التي سيطرت على أراضٍ في بعض النقاط وأغوات القصر بارتكاب أعمال عنف، على الرغم من أن إيديولوجيتها هي في أقصى اليسار، بقدر ذهاب “داعش” إلى أقصى اليمين). وبذلك، لن يؤدي قصف الرقة ببساطة من دون وجود خطة عملية لقوة برية تستولي على الأرض وتنزعها من “داعش” إلى تحسين الوضع الراهن، ولو أنه قد يهدئ حدة الغضب العام.
بالنسبة للتحدي المنفصل تماماً في التعامل مع جعل الشباب متطرفين في البلدات الأوروبية، يحاجج العديد من الخبراء بأن ذلك يميل إلى أن يكون مسألة صحة عامة. وقد أنتجت أفضل الممارسات الحضرية، مثل نشر شرطة مجتمع وتدخل حكومي فعال لتحسين سوية كرامة الناس (أكثر أهمية بكثير حتى من مخاطبة الفقر)، نتائج جيدة.
وثمة احتمال بأن تدفع شيطنة المهاجرين السوريين، أو كل المسلمين، كمجندين محتملين في “داعش”، بهؤلاء الناس إلى الارتماء فعلياً في أحضان المتطرفين. ويحتاج صانعو السياسة الذين يرغبون في معالجة هذه الأزمة إلى استخدام آليات السياسة العامة والعمل الشرطي المستنير بدلاً من اللجوء إلى أدوات الحرب الصماء. وفوق كل شيء، يحتاجون إلى وقف تسويق محاولة “داعش” إشعال صدام حضارات.
(ذا نيشن)