كان لبنان في عيد نهار أمس. احتفل الجميع، حكومة وشعباً، بإطلاق 16 عسكرياً كانت تحتجزهم «جبهة النصرة» بعد 16 شهراً أمضوها أسرى في المنطقة الحدودية الجبلية المحاذية لسورية في شرق البقاع اللبناني.
لم يكن التفاوض بين الحكومة اللبنانية و»جبهة النصرة» تفاوضاً مباشراً. فالحكومة، التي كلفت مدير الأمن العام اللواء عباس إبراهيم الإشراف على التفاوض، كانت تعرف صعوبات التفاوض المباشر ومحاذيره، مع جبهة مصنفة دولياً باعتبارها أحد التنظيمات الإرهابية.، فضلاً عن انها قتلت اربعة من الاسرى الذين كانت تحتجزهم. هنا لجأت الحكومة إلى من يستطيع أن يقيم قنوات اتصال مع هؤلاء، فكانت المساعدة التي قدمتها دولة قطر، والتي حرص المسؤولون اللبنانيون أمس على «شكرها» على الدور الذي قامت به.
ليس هذا فقط. فالحكومة اللبنانية كانت تعرف أيضاً أن إطلاق الأسرى العسكريين له ثمن، وهو إطلاق سجناء في السجون اللبنانية، منهم من يواجهون تهماً بالقيام بأعمال إرهابية. انه ثمن يتعلق بمكانة القضاء وبمسألة تطبيق القانون، وفوق ذلك بقضية السيادة، التي لا تتحصن كما يفترض إلا إذا التزمت الدولة بمبدأ عدم التفاوض مع الإرهابيين، أو الخضوع لمطالبهم ولابتزازهم. انه المبدأ الذي تحافظ عليه دول كثيرة تعرّض مواطنوها للخطف، فيما تساهلت دول غربية أخرى مع هذا المبدأ وقدمت تنازلات، بل دفعت أثماناً غالية مقابل إطلاق أسراها، كما حصل في مرات متكررة مع أسرى غربيين كان يحتجزهم تنظيم «داعش».
غير أنه لم يكن أمام الدولة اللبنانية من خيار سوى التفاوض. كان هناك ضغط أهالي العسكريين الذين اعتبروا وعن حق أن احتجاز أبنائهم يوجه إهانة مباشرة للدولة، التي يفترض فيها توفير الحماية لجنودها، كما أنه يثبت عجزها عن فرض سيادتها على منطقة حدودية من الفلتان الأمني الذي عاشته (ولا تزال إلى حد بعيد) منطقة عرسال وجرودها.
لا حاجة هنا للدخول في الظروف العملانية التي أدت أو سهّلت أسر العسكريين. ما يمكن قوله إن هذه الظروف شكلت هي أيضاً عامل ضغط على الدولة اللبنانية للعمل على إطلاق جنودها بأي ثمن.
لفترة غير قصيرة، خلال الشهور الستة عشر الماضية، واجهت الحكومة اللبنانية مسألة ما يمكن تسميته الحصول على «ترخيص» بالتفاوض، وإن غير المباشر مع «جبهة النصرة». فـ «حزب الله»، الجهة الأكثر نفوذاً في لبنان، والأوسع حضوراً على الساحة السورية بين التنظيمات المقاتلة إلى جانب النظام، لم يستحسن منذ البداية فكرة التفاوض هذه، أو تقديم التنازلات التي كان لا بد منها لـ «النصرة»، وهي أحد الأطراف المعادية للحزب في القتال على الساحة السورية. تذرع الحزب بحجة السيادة، في الوقت التي خُرقت هذه السيادة المزعومة مباشرة منذ اللحظة التي خرق فيها الحزب الإجماع الحكومي اللبناني، الذي كان يقتضي النأي بلبنان عن الحرب السورية، كي لا يضطر في ما بعد إلى مواجهة تداعياتها، كما يفعل الآن في مسألة التفاوض التي نحن بصددها، والتي قد تتكرر غداً إذا وجدت الحكومة اللبنانية استعداداً من جانب تنظيم «داعش» الإرهابي لفتح قنوات تفاوض معها لمحاولة إطلاق سراح الجنود التسعة الذين ما زالوا محتجزين لدى التنظيم.
إذا كانت «جبهة النصرة» قد تمكنت، من خلال الصفقة الأخيرة، من ترتيب أوضاع اللاجئين السوريين في مخيمات عرسال، فيما كانت الحكومة اللبنانية تعتبر أن تلك المخيمات تحولت مصنعاً للتفخيخ وإرسال المتفجرات، كما تمكنت الجبهة من فرض وادي حميد كمنطقة آمنة للاجئين، لا تستطيع القوى الأمنية اللبنانية أن تتعرض لها، فما هو الثمن الذي سيطلبه تنظيم «داعش» لتحرير الجنود الذين يحتجزهم؟ وأي حكومة ستجرؤ على دفع ذلك الثمن؟
لا بد أنه السؤال الذي يراود المسؤولين اللبنانيين اليوم وهم يعيشون فرحة إطلاق جنودهم.