جلس المسؤولون يتهكمون على ردود فعل “الشارع” تجاه فكرة تعداد السكان. قال أحدهم: لو رأونا نصلي ونقرأ القرآن، فسيقول الناس إن وراء الأكمة ما وراءها. الشعب لدينا مسكون بنظرية المؤامرة؛ فكرة الأقاليم جعلوا منها مؤامرة للحل النهائي للقضية الفلسطينية، والتعداد استدراج لأهداف سياسية حكومية، حتى كلمة “إسرائيل” أصبحت الشغل الشاغل. وقال آخر: الناس لا تسمع من الحكومة، بلّغوا وزير الأوقاف فليطلب من خطباء الجمعة الحديث عن التعداد السكاني بوصفه فرضاً، ولتكن الخطبة المبثوثة يوم الجمعة على شاشة التلفاز جزءاً من خطة التشجيع هذه. وقال ثالث: ولم لا نطلب من التلفزيون إعداد أغنية بكلمات شعبية بسيطة لتعزيز تعاون الناس؟ وقال رابع: فلنطلب من برامج حوارية مشاهدة أن تستضيف مسؤولين يجيبون عن شكوك المواطنين.
لا أظن، بحالٍ من الأحوال، أنّ هذا السيناريو التخيّلي يبتعد كثيراً عن “غرفة عمليات” الحكومة المفترضة لتهيئة المزاج العام للتعاون مع فكرة التعداد السكّاني، فهذه هي طريقة تفكير المسؤولين لدينا، نعرفها جيداً!
حسناً، ماذا كانت النتيجة؟! نسبة من خطباء الجمعة استجابوا لتعليمات “الأوقاف”، فكانت خطبا مملة سقيمة؛ مع ارتفاع في منسوب الأسئلة عن أدوات الدولة وخلطها الخطاب الوعظي بالخطاب الرسمي العام، بصورة عشوائية؛ وبرامج حوارية لم تغير شيئاً في المزاج الشعبي، برغم أنّها الوسيلة الأكثر حضارية في أدوات الدولة.
ثم كانت الطامة الكبرى التي تكشف حجم الفجوة بين الدولة والشارع، وهي الأغنية التي بثّها التلفزيون الأردني، وأصبحت النكتة المتداولة بين الناس؛ إذ ملأت مواقع التواصل الاجتماعي وشغلت الشعب الأردني، ليس لرداءة صوت المطرب أو ضعف المذيع، وقد يكون العكس هو الصحيح، لكن لهذا المستوى في الخطاب الرسمي وعدم قدرته على إدراك مدى الوعي والثقافة لدى الرأي العام الأردني، سواء على صعيد مضمون كلمات الأغنية (التي قد لا تصلح لطلبة “الأول ج”)، أو رداءة الإخراج والخفّة في التعامل مع مستوى ذكاء الناس واحترام أذواقهم.
لذلك كانت هذه الأغنية أكثر من غيرها مصدر النكتة التي تستبطن مرارة شديدة لدى المواطنين، واستفزازاً هائلاً لأغلبنا، لأنّها (أي هذه الأغنية) تفترض أنّها تتعامل مع مجتمع متخلف، أمّي، لا يقرأ ولا يكتب، ولا يعرف معنى التعداد ولا قيمته، ويحتاج إلى كلمات ساذجة وإلى أداء باهت ليقتنع بأهمية التعداد وضرورته!
مع الاحترام للمطرب والمذيع، وهما ليسا مسؤولين عن هذه الفضيحة التي حدثت على شاشة التلفزيون الرسمي، لكنّها مرة أخرى، كمان وكمان، العقلية الرسمية في التعامل مع الشعب، وهنا جوهر الخطيئة الكبرى التي ترتكبها الحكومات بحق المواطنين؛ في صوغ الرواية الإعلامية الرسمية، وفي تقديم وتسويق وتفسير سياسات الدولة ومواقفها. ولا ينفصل ضعف الأدوات عن جرح المصداقية والشفافية النازف في علاقة الدولة بالشارع والمواطنين، وبدلاً من محاولة تضميده نجد المعنيين يرشّون عليه الملح!
القصة، وأنا أعرف الرد المعلّب لدى “المطبخ الحكومي”، ليست سوداوية، ولا سلبية أو عقلية اتهامية من قبل الشارع. وحتى لو كان ذلك صحيحاً، فإنه لم يأتِ اعتباطاً، بل لأنّ الدولة نفسها هي التي رسّخت هذا المزاج العام تجاهها، كون المسؤولين لدينا، باختصار، لا يدركون أنّ مستوى الذكاء والثقافة والقدرة لدى الشريحة العامة من المواطنين تجاوزت الآلة الحكومية العرجاء بمسافات فلكية، وأنّ المجتمع الذي تتمثل علامته التجارية الحقيقية بتصدير العقول المفكرة والمبدعة والطبقة المتعلمة التكنوقراطية، لا يجوز أن يتم التعامل معه بهذا المستوى من الخفة والاستهتار والاستفزاز!