ثمّة قلق رسمي عربي، غير معلن، لكنه واضح من دلالات عديدة، بشأن ما يحدث في الأراضي الفلسطينية المحتلة من “ثورة جنينية” ضد الاحتلال الإسرائيلي.
إذا كانت الخشية على العملية السلمية ومصيرها، فإنّ هذه العملية اليوم “ميتة إكلينيكياً”. أمّا الرهانات العربية على الدور الأميركي، ففشلت، كما على تراجع قوة اليمين الإسرائيلي فتبخّرت، مع تنامي التيار الديني واليميني هناك وهيمنته على الأوضاع السياسية بصورة عامة، في مقابل تقهقر اليسار وضمور “معسكر السلام” الإسرائيليين.
لا يوجد في أوساط أشد المتحمسين للعملية السلمية، وحتى لأكثر المروجين لتقديم تنازلات فلسطينية غير مسبوقة، أيّ أوهام اليوم بأنّ هناك شريكاً إسرائيلياً حقيقياً في موضوع التسوية والسلام؛ إذ اتضح فعلياً أن “السقف الإسرائيلي” لأيّ “كيان فلسطيني” لا يتجاوز “حكما ذاتيا” هشّا، وسيادة محدودة مرتبطة بشروط الأمن الإسرائيلي. ويبدو أنّ هذا التعريف يمثل جوهر الرؤية التوافقية في مختلف الأوساط الإسرائيلية، الأمر الذي تسعى إسرائيل إلى ترجمته عبر سيناريو “الأمر الواقع”.
وضمن الموازين الحالية للقوى داخل فلسطين وفي المنطقة، وبشهادة العرب أنفسهم، فإنه لا يمكن أن يراهن الفلسطينيون على مبادرات أميركية حقيقية تجاه التسوية، ولا على دور إقليمي عربي يعيد هيكلة موازين القوى. لذلك، اضطر الأردن وحيداً لأن يقف في وجه إسرائيل، بكل قوته وأسلحته الدبلوماسية فقط من أجل محاولة إيقاف مخطط نتنياهو واليمين المتطرف في تهويد القدس والمسجد الأقصى.
إذن، وضمن هذه القراءة الواضحة والصريحة، فإنّ السؤال المنطقي هو: لماذا يخشى العرب من اندلاع انتفاضة جديدة، أو إطلاق مصطلح “الثورة الشعبية” الفلسطينية على ما يحدث حالياً في الأراضي المحتلة، ودعم الفلسطينيين الثائرين سياسياً وإعلامياً واقتصادياً ورمزياً، من أجل تدمير النظرية الأمنية الإسرائيلية التي تأسست منذ أعوام على فرضية “الاحتلال الديلوكس”؟!
ربما، على النقيض من الهواجس الرسمية العربية، تكون هذه الانتفاضة الشعبية بمثابة “العصا” التي تحرّك المياه الراكدة، وتضعف اليمين الإسرائيلي وتدفع بالرأي العام هناك إلى إعادة التفكير مرّة أخرى بالسياسات الحالية التي تقتل عملية التسوية، وبخطر المستوطنين والمستوطنات على أمن إسرائيل نفسها ومستقبلها.
بما أنّ نتنياهو يجهض عملية السلام ويقتل الفرص السياسية أمام الفلسطينيين، فلماذا لا يتم التفكير بصورة جدية بدعم “الربيع الفلسطيني”، وهو أمر أكثر من مشروع، ضد الاحتلال وما يمثله من استبداد ومصادرة للحريات وحقوق الإنسان وكرامته؟
إذا كان هناك خشية من تحول الانتفاضة إلى العمل المسلّح، مع ما قد يجره ذلك من تبعات كبيرة، فإنّ البديل ليس القلق من فكرة الانتفاضة نفسها، وإنما دعم التوجه السلمي الشعبي الثوري ضد الاحتلال وتأييده، وترشيد الفعل الفلسطيني باتجاه العمل السلمي على أكثر من مستوى لإحراج الاحتلال والدفاع عن حقوق الفلسطينيين.
المفارقة أنّه في الوقت الذي تبدو فيه ملامح القلق على الأوساط الرسمية العربية من الانتفاضة الجنينية الحالية، فإن ثمة وراء الكواليس تفسيرات غريبة عجيبة من قبل مسؤولين عرب، بمحاولة ربطها بحركة حماس و”المتطرفين الإسلاميين” وبأجندتهم ضد التسوية، وليس بالإرهاب الإسرائيلي. وهناك من يغمز في قناة الرئيس الفلسطيني محمود عباس ويصفه بالضعف والتردد، ليس عن مواجهة الاحتلال الإسرائيلي، بل في الوقوف أمام الانتفاضة الراهنة. في المقابل، فإنّ من يقرأ بعض الأعمدة لكتّاب إسرائيليين يستغرب كيف أنّهم يقدمون قراءة ورواية للثورة الحالية بصورة أفضل بكثير من الإعلام العربي؛ إذ يتحدثون عن دور اليمين الإسرائيلي في إغلاق المنافد كافة أمام الشباب الفلسطيني، وقتل عملية التسوية، وخلق حالة احتقان داخلي قابلة للانفجار في أي لحظة، ويلقون المسؤولية كاملة على عاتق نتنياهو وسياساته. فإذا كان العرب عاجزين عن تقديم روايتهم للعالم، فليتبنوا، على الأقل، مضمون تلك الرواية الموضوعية!