ليس لعاقل أن يختبر العلاقة بين مُخطِطِ هجمات باريس الناطق الإعلامي باسم «داعش» أبو محمد العدناني ومنفذها صلاح عبدالسلام. الرجلان يمتّ أحدهما إلى الآخر بصلة واهية، هي الصلة بين بنش في قضاء إدلب السوري وضاحية مولنبيك البلجيكية. ويستدعي القول أن الأول خطط للثاني أفعاله في باريس، خيالاً طفلياً يجعل للأشياء علاقات هي غير ما دأب الإنس على تصوره. فأبو محمد العدناني الذي حفلت سيرته بوقائع مسجدية في ريف إدلب وببعض التعثر الشخصي والاجتماعي هناك، وبمهن وحرف أبناء الأرياف السورية، وبعدها بـ «جهاد» في العراق ثم سجن في سورية، هو من اختار المهمة لذلك الفتى المغاربي القادم من الـضاحية الفرنسية لـ «الجهاد» في سورية مخلفاً وراءه في فرنسا وفي بلجيكا فقراً مدينياً وعائلة مضطربة وعلاقات ليلية، وبعض أقراص «أل أس دي».
وأوروبا التي راحت تُفكر بإرهابييها عقب مقتلة باريس لم يطل بها الأمر حتى كفت عن الربط بين الرجلين بأكثر من الرابطة التقنية، فالعنف تشكل هنا في باريس أو هناك في مولنبيك، وهو وإن كان إسلامياً، إلا أنه إسلام الضاحية الأوروبية غير المبلور، ذاك الذي عجزت القارة العجوز عن تمييزه بصفته مضموناً ثقافياً لحالٍ من الاغتراب والعزلة، ولعولمة راحت وسائل الاتصال تُخفف من ضوابط الأمان المطلوبة لكبح نزوعها نحو الانتحار. وفي المقابل ليس الفقر هو الدافع للقتل، على ما دأبت الرطانة الإسلاموية بالترديد، هو فشل يتعدى الفقر والعزلة، فبعض القتلة مندمج ومن غير الفقراء، ثم أن الفشل الأمني لا يُفسر كل الظاهرة.
ثمة عُطل أصاب «السيستم»، أو أن الأخير ولد ناقصاً. وأوروبا الواحدة، التي استثمر القتلة في هشاشة نظامها، غير مُفسَرة على نحو يساعد في فهم ما جرى. العبور السهل من بلجيكا إلى فرنسا وبالعكس لن يكون آمناً إذا ما أنزل الفرنسيون قوات على ساحل مالي، وإذا ما قصفت طائرات الرافال مواقع «داعش» في سورية. هذه المعادلة هي أبسط صورة للخلل، أما أعقدها فتلك العلاقة بين القتل كنزوع بشري أصلي وبين آليات تصريف هذا النزوع في آلة دفع الحياة إلى الأمام.
فرنسا بمفردها ربما فكرت في ذلك فأخفقت ونجحت وحاولت، وبريطانيا وبلجيكا وغيرها من الدول أيضاً، أما أوروبا مجتمعة فلا يبدو أنها فعلت ذلك، فاستفاد القتلة من ثغرات الحدود وتفاوت القوانين والخلل في تبادل المعلومات.
ليس أبو محمد العدناني من التقط هذا الخلل، فلا هذا الرجل ولا جهاز أمنه في الرقة وفي الموصل هو من بلور لصلاح عبدالسلام خطته. المقتلة اقتضت معرفة حثيثة ومعايشة واختباراً مديداً لحقيقة أن لائحة المُرَاقَبين الفرنسيين (فيش أس) لا تعمل في الجانب البلجيكي، فعبر الرجل بعد تنفيذه العملية الحدود آمناً بعد أن دقق حرس الحدود بهويته الأوروبية غير المزورة.
القول إن أمر يوم الجمعة الأسود في باريس صدر عن قيادة «داعش» في سورية وفي العراق سيكون بالنسبة للأوروبيين إخفاء للرأس في الرمال. ليست أوروبا ولا فرنسا من استُهدف بـ «أمر اليوم» الصادر من الرقة والموصل، إنما ذلك الخلل الذي نقل تفاصيله صلاح عبدالسلام إلى أبو محمد العدناني عندما زاره في سورية. «داعش» لم يستهدف فرنسا لأن الأخيرة تقصفه في سورية، إنما استهدف فرنسا لأن فرنسا ممكنة، ولأن «السيستم» يتيح لها ذلك. «داعش» مستوعب عنف غير عاقل، ومن السذاجة الاعتقاد بأن فكرة وراء فعلته تتعدى توليد العنف من العنف وإنتاج صور مبتكرة له.
ربما نجح «داعش» في إرسال ناشطين منه عبر قوافل اللاجئين السوريين أو العراقيين إلى أوروبا، لكن ليس هؤلاء من يصلح للمهمة التي نفذها عبدالسلام ومجموعته. لم يثبت حتى الآن أي علاقة بين المقتلة الباريسية ومهاجرين حديثي الهجرة إلى أوروبا. والمتمسكون بالبحث عن علاقة بين المهاجرين الجدد وما جرى مساء يوم الجمعة الأسود وما أعقبه من ملاحقات في فرنسا وبلجيكا خلصوا إلى نتيجة صحيحة، لكنها هزيلة ولا تفسر شيئاً مما جرى. قالوا إن سورية كانت ضرورية لنجاح المهمة، فمنها صدرت الأوامر، وفيها تدرب بعض المنفذين!
كان يمكن للأوامر أن تصدر من مالي مثلاً، والتدرب على السلاح أسهل في ليبيا على من يقيم في فرنسا، وهو ما فعله مئات الإرهابيين التونسيين، والأرجح أن يكون إرهابيون فرنسيون قد فعلوه أيضاً.
«داعش» الأوروبي والعالمي لا يقيم في سورية، إنما في أي خلل يمكن أن ينكشف له، وفي ظل هذا الاختلاط الهائل الذي يشهده العالم يملك «داعش» ما لا يُحصى من مجسات الفحص والتقصي، ولا يعوزه غير إصدار الأمر في ظل هشاشة العالم. أما الإسلام وهو ما راح كثيرون يشيرون إلى أنه هوية مشتركة لكل الفاعلين، فهو هنا مصفاة تفاوتات لا تقتصر على المضمون الثقافي والديني للإرهاب في أوروبا. فصلاح عبدالسلام مسلم لأنه ابن عائلة مهاجرة مسلمة، لكنه مسلم أيضاً لأنه يقيم في ضاحية مهاجرين في باريس ولأنه انتقل بسهولة للعيش في مولنبيك، ولأن نظام الدمج لم يستوعبه على نحو كامل، ولأنه تذكر بعد سنوات من النسيان أنه مسلم فغادر إلى سورية لـ «الجهاد». أي أنه إسلام مُتذكَر وغير ملموسٍ ومُعاش.
«لولا الحرب في سورية لما نجح الإرهابيون بتنفيذ مهمتهم في باريس»، هذا ما ردده وراء بشار الأسد عشرات من ناشطي اليمين الفرنسي والأوروبي وبعض اليسار أيضاً.
العودة إلى السنوات الأولى من الأزمة السورية ربما كانت مفيدةً في هذا السياق. التحذيرات التي أطلقت للأوروبيين من أن جهادييهم يُكررون تجربتهم في أفغانستان والجزائر وما أعقبها من تفجيرات في ميترو باريس، وفي العراق وما أعقبها من تفجيرات في لندن وفي مدريد، هذه التحذيرات كانت يومية، ولطالما رُبطت بحقيقة أن النظام في سورية يدفع نحو تحويل سورية إلى بؤرة تصدير للعنف ويملك خبرات هائلة على هذا الصعيد. ولا يبدو أن الأذن الأوروبية كانت مصغية.