لو أن مركزا لمسوحات الرأي العام وجه سؤالا لعينة من الأردنيين عمن يقف خلف الحضور القوي لتنظيم “داعش” في المشهد الإقليمي، فما هي الإجابة المتوقعة؟
أستطيع أن أدخل في رهان على الجواب حتى قبل الشروع في إجراء المسح؛ سبعة من بين عشرة على الأقل سيردون بالقول: الدول الغربية، وأميركا على وجه الخصوص.
وإذا ما توسعت أكثر وسألت: لماذا يدعم الغرب وأميركا وجود “داعش”؟ ستأتيك إجابات ترقى إلى مستوى اليقين عند أصحابها: الغرب يريد تشويه صورة الإسلام للقضاء عليه، ويبحث عن مبرر لغزو العراق وسورية وتمزيق الدول العربية إلى دويلات طائفية متحاربة خدمة لإسرائيل وأمنها على المدى الطويل. وسيضيف آخرون بالقول: المجمع الصناعي العسكري في أميركا هو المستفيد الأول من اشتعال المنطقة، لدفع بلدانها الغنية إلى إبرام المزيد من صفقات السلاح، وضخ مليارات الدولارات في الاقتصاد الأميركي.
ما يدفع الأغلبية؛ ليس في الأردن فحسب، وإنما في العالم العربي عموما، إلى هذا الاعتقاد عوامل عدة، أهمها عدم إدراك شريحة واسعة من الناس للظروف والتطورات التي أدت إلى بروز ظاهرة “داعش” على هذا النحو، وتمددها السريع في العراق وسورية. وتباطؤ الجهود الدولية في التعامل مع التنظيم، وعدم فاعلية التدخل العسكري “الجوي” في القضاء عليه. والقدرات العسكرية والمالية التي يحوز عليها، ونجاحه المشهود في استقطاب عشرات الآلاف من المقاتلين من أنحاء العالم كافة، والتغاضي عن سيطرته على حقول نفطية وعقد الصفقات مع تجار النفط في أكثر من دولة تدعي محاربة التنظيم. وعادة ما تختتم هذه السردية بسؤال استنكاري: هل يحدث ذلك كله بلا تخطيط وتدبير من قوى عالمية؟!
لا يمكن رد القناعات بوجود “مؤامرة” دولية وراء تنظيم “داعش” إلى فاعلية الماكينة الدعائية للنظام السوري، الذي سعى ومنذ بداية الأزمة في سورية، إلى وصم المعارضة السورية كلها بالإرهاب، وربطها بالدعم الغربي والإقليمي؛ ولا إلى دور روسيا أيضا التي دعمت الرواية السورية بالأدلة والبراهين، وآخرها قوائم تضم أسماء شخصيات خليجية تدعم “داعش” ماديا، قدمها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين للزعماء في قمة “مجموعة العشرين”. صحيح أن هذه الدعاية تركت أثرا في الرأي العام، لكن الاتجاه الغالب لا يقف في صف النظام السوري، ولا يصدق روايته؛ فمن بين المؤمنين بنظرية “المؤامرة”، لا تجد سوى أقلية تدعم النظام السوري، خاصة في دول الخليج العربي، وحتى في الأردن الذي تظهر استطلاعات الرأي العام فيه ذلك بوضوح.
من الصعب في هذه العجالة أن تناقش مسائل شائكة بهذا القدر. لكن يمكن القول باختصار إن نظرية المؤامرة هي عقيدة تسكن الوجدان العربي منذ زمن طويل، وإليها يرد العرب كل ما حل بهم من مصائب ونكبات وخيبات. وقد أخفق العقل العربي، رغم بعض المحاولات الخجولة، على مدار قرن مضى في التحرر من نظرية المؤامرة، وطرح الأسئلة الصعبة والقاسية.
ظاهرة “داعش” تشبه إلى حد كبير في سلوكها المتوحش والإقصائي النازية في ألمانيا، مع فارق الحجم والقوة بين الظاهرتين. لم يخرج في ألمانيا من يدعي بوجود مؤامرة خلف النازية. واجه الألمان الحقيقة المرة من دون تردد، واعترفوا بمسؤولياتهم التاريخية عما حل بالعالم من ويلات. العقل النقدي فعل فعله، ولم يجامل في نقد الذات بقسوة، للتخلص من العار الذي ألحقته النازية بألمانيا.
باختصار، “داعش” صناعة؛ غربية؟ ليس مهما؛ المهم أنه معدن في باطن أرضنا مثل البترول والفوسفات والبوتاس، من يمد يده في جوف الأرض يخرجه ويستثمر فيه، وإن شئنا هلنا عليه التراب إلى الأبد. بيدنا الحل.