في غمرة الأحداث الإجرامية التي وقعت في باريس، ومع زحمة المواقف الدولية المتسابقة إلى رحى الحرب على الإرهاب، أدلت وزيرة الخارجية السويدية بتصريح مقتضب لتلفزيون بلادها، تطرقت فيه إلى استشراء ظاهرة التطرف بين الشبان المسلمين، وأعطت على ذلك مثالاً بما يحدث في الشرق الأوسط، حيث هناك كثير من الفلسطينيين يشعرون باليأس، مما يدفعهم إلى ممارسة العنف تحت وطأة إحساس ثقيل بأن ليس لهم مستقبل. وبالتالي، فقد كان عليهم أن يفاضلوا بين خيارين: إما القبول بهذا الوضع المثير للإحباط؛ أو اللجوء للعنف.
كاد هذا التصريح المقتضب للوزيرة السويدية الشجاعة مارغوت وولستروم، التي عقدت صلة طفيفة بين الوضع المأساوي القائم في فلسطين وبين التطرف الذي يجتاح العالم، أن يمر من دون أن يلفت الانتباه، أو أن يشغل حيزاً صغيرا من الفضاء الإعلامي المكتظ بأنباء التفجيرات وقصف الطائرات، لولا أن إسرائيل الممتلئة بغضب مزمن ضد المملكة السويدية الباذخة، هالها تذكير العالم بسوأتها القديمة، كصاحبة أقدم احتلال عنصري، بذر البذرة المسمومة الأولى، وخصب التربة المواتية لاستنبات شتى ظواهر العنف والإرهاب.
ولعل بيت القصيد في هذه الغضبة الإسرائيلية، هو الخوف الكامن من تجديد الفرضيات الغربية التي راجت مبكرا، وكادت تصبح قناعة دولية مشتركة، أن أحد أهم الروافد التي تغذي نهر العنف والتشدد الجارف في هذه المنطقة، ينبع من إطالة أمد الظلم والقهر، وتغول الفساد والاستبداد، إلى جانب استمرار الاحتلال الإسرائيلي، وذلك قبل أن تؤدي الفوضى الضاربة في الشرق الأوسط، وبعدها ظهور تنظيم “داعش”، إلى غض بصر الرأي العام الدولي، مؤخرا، عن تلك الصلة العميقة القائمة بين أم أزمات المنطقة، ونشوء الظاهرة الإرهابية المتمادية.
على هذه الخلفية، أتى رد الفعل الإسرائيلي مشوباً بالهلع، إزاء ما بدا أنه خروج سويدي عن نص الخطاب الأوروبي السائد في هذه الآونة؛ إذ كل الأضواء مطفأة على جرائم الاحتلال، ومسلطة، في الوقت ذاته، على الإرهاب فقط. وهو ما جعل الوزيرة السويدية مطالبة ليس فقط بالاعتذار عن أقوالها، وإنما أيضا بعدم إثارة مثل هذا الأقوال الناشزة مرة أخرى. إذ وصفت الخارجية الإسرائيلية تصريحات وولستروم بأنها “مروعة في صفاقتها، ومنحازة بشكل منهجي وأحادي الجانب ضد إسرائيل، وتظهر العداء المطلق عندما تشير إلى علاقة ما بين عمليات باريس والمصاعب بين إسرائيل والفلسطينيين”.
ومع أن الخارجية السويدية حاولت، فيما بعد، التقليل من وقع تصريحات وزيرتها على المسامع الإسرائيلية المرهفة إزاء الانتقادات الأوروبية الناعمة، موضحة أنها لم تدع صلة بين انفجارات باريس والصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، إلا أن الهجمة الإسرائيلية الكلامية الضارية لم تتوقف، وظلت غير مهادنة، إذ زعم الناطق بلسان خارجية آخر دولة احتلال تدعي الديمقراطية “أن من ينشغل في محاولة فاشلة لخلق علاقة بين عمليات الإسلام المتطرف وبين الحالة القائمة في هذه المنطقة، يضلل نفسه وشعبه والرأي العام الدولي”.
والحق أن المسألة ليست مجرد رمانة، بل قلوب اسرائيلية ملآنة بالرغبة في الانتقام وتسديد الحساب، مع سلسلة مواقف ريادية، اتخذتها المملكة الاسكندنافية في السابق لصالح النضال الفلسطيني، إن لم نقل إنها محاولة للتشهير بسياسة دولة بدت وكأنها تغرد خارج السرب الأوروبي المصاب بلوثة الحرب ضد إرهاب “داعش”، على نحو يصب الزيت على النار، من دون أن يبدي أي اهتمام بمعالجة جذور هذه الآفة المتفاقمة، وفي مقدمتها استمرار التهميش والإقصاء والتجاهل لأسباب انتشار هذه الظاهرة، إلى جانب تواصل الاحتلال والاستيطان والانتهاكات الإسرائيلية لحقوق الإنسان.
وليس من شك في أن إسرائيل، وهي ترفع عقيرة احتجاجاتها، وتتمادى في تحرشاتها بالموقف السويدي المتقدم على غيره (وهو موقف لم يلق ترحيباً مستحقاً من جانب الدبلوماسيين والإعلاميين العرب مع الأسف)، كانت في واقع الأمر تجدد احتجاجاتها الهستيرية السابقة حيال اعتراف السويد، كأول دولة أوروبية، بالدولة الفلسطينية هذا العام، تماماً على نحو ما بادرت إليه استوكهولم، في سبعينيات القرن الماضي، عندما استبقت دول المجموعة الأوروبية بالاعتراف رسمياً بمنظمة التحرير الفلسيطنية، واستقبلت قادتها المتهمين بالإرهاب بكل حفاوة، وافتتحت قبل ذلك أول بعثة تمثيلية للمنظمة في القارة العجوز.