عروبة الإخباري – ارتقى العرض المسرحي التونسي “برج الوصيف” الذي اعد نصه واخرجه الشاذلي العرفاوي عن “قطة على سطح الصفيح الساخن” للكاتب المسرحي الاميركي تينيسي وليامز، والذي قدم مساء امس على المسرح الرئيس في المركز الثقافي الملكي، في ختام عروض مهرجان الاردن المسرحي22، بالذائقة المسرحية لدى المتلقي والجمهور.
العرض الذي يستهل بصوت مؤثر صوتي لقرع جرس كأنه ناقوس يحذر او يدعونا للتهيؤ والتيقظ التام، في ظل شبه تعتيم ما يلبث عن تتسلل اليه الاضاءة تدريجيا لتكشف عن اولى مشاهده حيث يقف خمسة اشخاص على سرير معدني فاخر يتموضع في منتصف يمين الخشبة، وتتقدمهم شخصية رجل بكامل اناقة هندامه يحمل كعكة عيد ميلاد مضاءة بالشموع، تدور احداثه حول اسرة ثرية تعاني صراعات ومشاكل وخلافات عائلية ذات بعد اجتماعي لم يبتعد كثيرا عن دور المال بوصفه مؤججا لها.
المسرحية التي حملت إيحاءات دلالية نفسية استندت على بنية سيكولوجية ودور العامل النفسي، وما يطلق عليه بــ”مسرح المأساة الحديثة” حيث سلوكيات المجتمع تلعب دورا رئيسا في تشكيل المصائر، ويتجلى الاحتجاج الاجتماعي عوضا عن تطهير “الذات/النفس” عن طريق الخوف والشفقة بإثارتها لمثل هذه الانفعالات وهو الذي كان سائدا في ما تعارف عليه بالتراجيديا القديمة بحسب التعريف الارسطي، جسدت المأساة التي تعيشها شخوص الحكاية منطلقة من “الانا” بكل غطرستها وبالتالي انسحاقهم في رغباتها وانجرافهم نحو وهم الخلاص بستائره المختلفة بغية التطهر.
وفي حكاية العرض، رب الاسرة الثري شخصية “قارون”، باسمها الذي يكشف عن مدلولاته بما تحمل من القصة الدينية التاريخية الشهيرة، والذي اعتقدت زوجته الطيبة الساذجة انه مجرد التهاب في القولون ليس أكثر بعد رحلة علاج في المانيا، مصاب بالسرطان، حيث يعمد بعض أفراد اسرته ذات الشخصيات المتشظية القلقة والمتباينة، لاسيما احد نجليه،ابنه الاكبر الملتحف بستار التدين، ومن ورائه زوجته ذات النزعات الدنيوية والتي فرض عليها الحجاب والتستر دون اقتناع، الى اخفاء خبر اصابة الاب وهو الشخصية العامة والثرية، واجبار الام على ان تبصم على اقرار الحجر عليه، مقصيا شقيقه الاصغر ذا الشخصية البوهيمية المأزومة نفسيا، والمتعلق بركوب الخيل، والمدمن على الخمر لنسيان همومه وارهاصاته وغير الملبي لرغبات زوجته المتعطشة عاطفيا وجسديا والتي تأسرها الوحدة وحلم الامومة، طمعا في ثروته التي تتمثل في امتلاكه أراض جلها زراعية تبلغ مساحتها 28 ألف هكتار تسمى ببرج الوصيف كناية عن تونس الدولة في البنية الداخلية/العميقة للمسرحية.
المسرحية التي بدت في حالة استراتيجية رتيبة مقصودة، ويدور في بنائها الخارجي الصراع المادي لكشف الواقع بكل تناقضاته الاجتماعية والسياسية والاقتصادية،جاءت محملة في بنيتها الداخلية بمضامين ومحمولات اجتماعية تشير الى ما تعانيه المجتمعات العربية أفرادا وجماعات من هزائم داخلية وشروخات اجتماعية كبيرة وتضخم “لــلانا” التي تبرر كل فعل شائن متعرية من القيم الاخلاقية، بدءا من الاسرة التي هي نواتها وانتهاء بالمجتمع باسره، لم تخل من اسقاطات عن الواقع التونسي الذي ينسحب على مختلف المجتمعات العربية، وتحديدا الوضع السياسي وكيفية التناحر على الكراسي والنفوذ، والصراع بين القوى الظلامية والتنويرية.
يوظف المخرج العرفاوي ليلة عيد ميلاد الأب قارون، كعلامة زمنية لإدارة مجريات العرض خصوصا الشموع على كعكة عيد الميلاد التي لا تنطفئ طيلة المشاهد،إلا في الخواتيم حال وفاة الاب المحتفى به، فيما يمثل السرير علامة مكانية لرسم حركة الأحداث فهو المهد وهو اللحد وهو ما بينهما، وبين هاتين العلامتين الظرفيتين وحولهما، تدور معظم الاحداث في تلاقيها وصراعاتها وبما تحمل من تناقضات لتنشئ الفعل المسرحي.
وفق المخرج في ضبط ايقاع الميزانسين متمثلا بالأداء التمثيلي والحركي لشخوص العرض جاء متميزا لاسيما المشهد الحركي التعبيري التي ادته مختلف الشخصيات حيث يؤدي الابن الاكبر وزوجته الصلاة على مقدمة يمين الخشبة وهما فاغرا الفم، ما تلبث زوجته ان تنصرف عنه الى خلف السرير نازعة غطاء الرأس لتوسطه على خصرها وتؤدي بأسلوب هستيري رقصا شرقيا، في تزامن مع اداء حركي لزوجة الابن الاصغر على السرير في وضعية عامودية معه تناجي رغباتها المقهورة والمدفونة،فيما يقترب منها زوجها مترددا الا انه يرفض تلبيتها رغم تعبيراته الحركية عن قدراته التي تتماثل مع الخيول الفتية، في الوقت الذي تسير الام بكعكة العيد خلف الاب بوصفها تابعا له لا زوجة واما وشريكة حياة حيث يتجلى حضور المرأة بصورتها السلبية.
النص المنطوق في العرض، الذي رغم انه جاء بالمحكية التونسية الا ان قوة الصوت والالقاء ووضوح مخارج الحروف ساهمت بتميز الاداء، من خلال المونولوجات والديالوجات التي عبرت عن مكنونات الشخصيات ومضامين مختلفة ومنها التطهر، والاسقاطات السياسية، وغير المنطوق ومنها المؤثرات الصوتية ،الموسيقا والغناء من الموروث التونسي، وصوت الامطار الرعود التي جاءت في غير فصلها، وعبرت عن اروحها المتعبة والثائرة والمشاحنات فيما بينها، فيما بلاغة الصمت تجلت بوضوح في العديد من الشاهد كنص غير منطوق يدعو الى التأمل.
ووفق المخرج بتوظيف جماليات السينوغرافيا ببساطتها ومختلف عناصرها من اضاءة بإسقاطاتها العلوية والجانبية وشبه التعتيم او التعتيم المطلق اللذين سادا معظم مشاهده لعكس ذلك الستار المظلم الذي يسود وتعيشه شخصياته، والمصابيح المتدلية بشكل الثريا من الاعلى واخرى على السيكوراما تعبيرا عن الثراء وفضاء القصر مثلما تساوقت في انخفاض او ارتفاع اضاءتها مع الانفعالات في المشاهد، والكرسي الخشبي الذي انذر سقوطه في المشاهد الاخيرة وبقي على وضعيته في يسار مقدمة الخشبة حتى نهاية العرض،بــ”سقوط” الاب قاروون ووفاته.
في العرض الذي اختتم كما بدأ بتكتل جميع الممثلين على السرير، فيما غابت شخصية الاب، حلت الام في المقدمة تحمل كعكة العيد بشموعها المنطفئة، حملت الكنبة الحمراء التي تموضعت في يسار عمق الخشبة اقرب للسيكوراما بدلالة لونها وفخامتها هيبة السلطة ودمويتها في آن واحد، ومثلت البعد الانثولوجي لهما حيث يموت عليه الاب/السلطة، متمسكا به حتى آخر نفس، فيما حمل الهاتف الارضي الذي تم تنحيته جانبا في منتصف مقدمة الخشبة كانت تستخدمه الام المسكونة بالأفكار الشعبية للتواصل مع صديقاتها بخصوص تحصيل علاجات شعبية من الاعشاب لعلاج قولون زوجها، بوصفه معبرا عن حالة اللاتواصل بين افراد الاسرة، علاوة على الازياء والملابس التي تساوقت مع الادوار والمشاهد.
شارك في العرض الفنانون صلاح مصدق وسهام مصدق وشاكرة الرماح وصالحة النصراوي وعبدالقادر بن سعيد ومهذب الرميلي.