غادرت رئيسة بعثة صندوق النقد الدولي كريستينا كوستيال، المملكة من دون أن تتمكن من التوصل إلى اتفاق نهائي مع الحكومة، بخصوص برنامج إصلاح اقتصادي جديد للسنوات المقبلة.
البعثة غادرت يوم السابع عشر من الشهر الحالي، بعد مباحثات ولقاءات ماراثونية، لكن الأمور سارت بعكس ما تشتهي أو تتوقع؛ إذ ساد الأجواء مزاج أردني غير مرحب بالبعثة، على غير عادة اللقاءات مع ممثلي المؤسسة الدولية.
لماذا لم تفلح جهود كوستيال؟
الأساس كان اختلاف وجهات النظر بشأن الخطوات المطلوبة للسنوات المقبلة. فملاحظات السيدة الألمانية حول عجز ميزان المدفوعات لم ترق للمسؤولين. وكذلك تلك المتعلقة بمديونية شركة الكهرباء الوطنية؛ إذ تسعى الحكومة إلى تحقيق نقطة التعادل في ميزانية الشركة، فيما يفكر “الصندوق” بمعالجة المديونية من خلال إجراءات تقوم على رفع تعرفة الكهرباء، الأمر الذي لم يقبل به المفاوض الأردني.
النقطة الخلافية الأخرى تتعلق بمطالبة “الصندوق” زيادة معدلات النمو الاقتصادي، وبما لا ينسجم أبدا مع توصيته برفع أسعار الكهرباء. إذ ترى الحكومة أن زيادة تعرفة الكهرباء على القطاعات الاقتصادية سيؤدي إلى تثبيط النمو لا زيادته.
أيضاً، برز ضمن النقاط الخلافية عدم إعجاب “الصندوق” بقرار الحكومة القاضي بتخفيض الرسوم الجمركية على الألبسة، ومطالبة البعثة الدولية بالرجوع عنه، باعتباره -كما قرار عدم رفع أسعار الكهرباء- يخالف البرنامج المرسوم من البعثة. وهنا أيضا قوبل الطلب برفض حكومي.
أين المشكلة؟
تكمن المشكلة في الوصفات الجاهزة التي يعدها “الصندوق”، والتي تشبه طبق طعام غير مستساغ الطعم، لكن يُصَرّ على إعداده بالمقادير ذاتها المقررة سابقاً! فرغم كثرة الحديث عن سوء نتائج وصفات “الصندوق” المعتمدة سلفاً للدول كافة التي تعاني من مشاكل وأزمات مالية، فإن كل خبرات المؤسسة الدولية العريقة لم تفلح، بافتراض أنها ترغب، في ابتكار برامج تستجيب لظروف كل دولة على حدة؛ بحيث تخفف من أزمتها المالية، من دون توسيع مدى مشاكلها الاجتماعية.
فأسهل الأمور أن يوصي “الصندوق” برفع أسعار السلع، وزيادة الضرائب. وليس مفاجئا أيضاً أن يوصي بتشجيع “العدالة والإنصاف” في مشاركة الفرد في رفد الخزينة العامة بالإيرادات، وهي في النهاية ضرائب، لكن من دون أن يعد دراسة حقيقية وشاملة توضح العبء الضريبي على المواطن الأردني تحديداً، بحيث لا تكون النظرة قاصرة ومجزأة، بأن ترتكز على ضريبة الدخل، فيما تهمل ضريبة المبيعات وسواها من ضرائب ورسوم.
بالنتيجة، غادرت البعثة الدولية الأردن، بيد أن استكمال المباحثات مسألة حتمية. الأمر الذي يفرض على الطرفين تقديم رؤية مختلفة، تناقش خلال الاجتماع المقبل. إذ يحتاج “الصندوق” إلى التفكير خارج الصندوق في التعامل مع الأردن، بأن يقدم أفكارا جديدة، وليس تلك المعروفة والسهلة التي تنهك جيب المواطن فقط! وهذا ممكن، إن توفرت عقلية مختلفة تدرس الحالة الأردنية بعيدا عن نظرية “القص واللصق” (Copy and Paste). كما أن على الحكومة، في الجانب الآخر، النظر إلى التشوهات الحقيقية ومعالجتها، والمبادرة أيضا إلى تقديم حلول تبرّئها من تهمة الجباية.
بعيدا عن الاتفاق مع “الصندوق”، وهي نتيجة حتمية وطبيعية رغم الاختلاف الآني، فإن تشخيص المشكلات وإدراك حجمها ضرورة. وهي تلك التي أشّر عليها “الصندوق” في بيانه الأخير، وأخطرها حجم المديونية الكبير، والحاجة إلى تحقيق معدلات نمو تخلق فرص عمل وتخفف من معدلات البطالة. وأيضا ضعف الاستثمار والسياحة، وغيرها الكثير.
من حق المسؤول المفاوض، بل وواجبه أن يكون نداً لأعضاء البعثة الدولية، وأن لا يقدم تنازلات قاسية سيدفع الاستقرار الاجتماعي ثمنها في نهاية المطاف. لكن يلزم أيضا أن يُبقي هذا المسؤول قدميه على الأرض، فيتعامل بواقعية مع الحال الاقتصادية المريرة التي أنتجتها سياسات الحكومة والظروف الإقليمية.