هناك دول صغيرة و حديثة حققت نجاحات كبيرة ،و على المستوى العالمي، في تطبيق النظام والقانون و تخفيض مستوى الجريمة، بشكل جعلها تتفوق على عدد من الدول الأوروبية العريقة. ومنها سنغافورة و الأمارات العربية المتحدة، و كذلك كوريا كدولة متوسطة الحجم.فأصبحت مجتمعاتها تتمتع بدرجة عالية من الأمان و أصبحت العدالة فيها قوية ومستقرة، رغم تنوع تركيباتها المجتمعية و تعدد الثقافات و الأعراق فيها.
و بالنسبة لنا فلا يكاد ينقضي أسبوع أو اثنان، حتى يقرأ المواطن خبراً أو تصريحا أو اجتماعا حول “تفكير الدولة في تغليظ العقوبات”، بعد أن ارتفعت معدلات الجريمة بنسبة مقلقة،خاصة و أن البلاد قد استقبلت من اللاجئين ما يزيد عن 20% من السكان. لقد تغير موقع الأردن على المؤشر العالمي للجريمة، فأصبح دليل الأمان 56.7 ودليل الجريمة 46.3 وترتيب الأردن 57 بين دول العالم . هذا مقابل دليل الأمان في الكويت 63.03 ودليل الجريمة 36.97. ولا يكاد يمر أسبوع أو اقل حتى تنجح قوى الأمن مشكورة، بالقبض على كميات هائلة من المخدرات ،أو مطلوبين ومجرمين وأصحاب سوابق، ومنهم من تصل السوابق إلى 20 أو 50 أو حتى 80 بل و 120 سابقة. ومع هذا فالمجرم يتحرك ، بل ويقاوم رجال الأمن، و ربما يعتدي عليهم، بعد أن ارتكب عشرات الجنايات والجرائم المسجلة لد ى الشرطة والمحاكم.
و السؤال لماذا ؟ و إلى متى سيبقى أصحاب الشأن يفكرون ويدرسون ويتداولون ويجتمعون و ينتدون ويتناقشون حول مراجعة القوانين وتحديثها، و إمكانية تغليظ العقوبة؟ و لكن دون أي قرار؟؟ في حين يشعر الناس بالقلق، ويستمتع المجرم بالراحة وطول العمر، ويشعر انه أقوى من الدولة وفوق القانون، لأن لديه آليات كثيرة يستطيع من خلالها أن يتهرب من الجريمة ، فيطلق سراحه ، و يخلى سبيله،سواء من خلال “التدخلات” أو “العطوات” أو “التكفيل” أو “التقارير المرضية الزائفة” أو “ إسقاط الحق الخاص” أو “الأسباب المخففة” أو “إطالة مدة المحاكمة”، أو “التوسع في طلب الشهود” الذين لا يفضلون الحضور “خوفا على حياتهم أو ممتلكاتهم”، أو غير ذلك من الذرائع الكثيرة .
إن ترتيب الأردن في دليل حكم القانون بين الدول الأخرى هو 64 وقد انخفض دليل حكم القانون من 64 (من 100) إلى 50 ، وهي علامة على الحافة. وفي العدل الجنائي فالدليل 56 ، وهذه مؤشرات بالغة الخطورة، إذ تشير إلى أن ما يقرب من نصف الجرائم تمر دون إحقاق الحق و العدل بخصوصها.
إن وضع الجريمة وتجاوز القانون لا يمكن إصلاحه إلا من خلال برنامج وطني محدد هو “برنامج وطني لمكافحة الجريمة”يتضمن ما يلي: اولاً: تعاون الإطراف الستة في الموضوع و هي الأمن والقضاء والقانون والطب والجمهور و الإعلام. ثانياً: تغليظ العقوبة على ما يمس الأمن الإجتماعي بما يكفي لردع مرتكبيها، ليس فقط المجرم، وإنما كذلك مساعديه ومعاونيه ومن ييسرون له الاستمرار في الجريمة، سواء كان شريكا أو ممولا أو “متلاعبا بالحقائق” أو “متواطئا في التقارير” ثالثا: وضع سقف زمني للانتهاء من أي قضية والحكم فيها نهائيا ، بدلا من تمديدها سنة وراء سنة يستغلها المجرم في ارتكاب المزيد من الجرائم رابعاً: أن يكون هناك ميثاق شرف ومدونة سلوك يلتزم به كل ذوي علاقة للامتناع الكامل عن مساعدة أي مجرم من خلال إطالة مدة المحاكمة والملاحقة أو الثغرات القانونية أو المخادعات الدفاعية أو التقارير غير الصحيحة أو التمويل و غير ذلك خامساً: أن تتحرك الحكومة بمسؤولية ناجزة نحو تشديد العقوبة وتغليظها لتصبح رادعة حقا، وتتقدم بمشاريع القوانين اللازمة لمجلس الأمة. ويتحرك المجلس لإقرارها. إذ ليس هناك من فئة وطنية في المجتمع يمكن أن تعارض تطبيق القانون وتغليظ العقوبة و إرساء العدالة.
إن أهمية إرساء العدالة وتخفيض الأعداد الكبيرة للجرائم، في النهاية، لها أبعادها الوطنية البالغة الأهمية. وهي أساس الأمن المجتمعي، إضافة إلى بعدها الاقتصادي الهام. إذ لم يكن المنظور الإجتماعي الإنساني هو الدافع الوحيد لماليزيا و كوريا و سنغافورة والإمارات و غيرها للتأكيد على سيادة القانون والعدل و إنما كذلك القيمة الإقتصادية لكل ذلك. فأصبح القانون سائداً والعقوبة رادعة، و احتلت كوريا و الأمارات الترتيب السابع والثامن بين الدول في دليل العدل الجنائي وبعلامة 78 و 76(من 100) على التوالي.
فالإستثمار الوطني والأجنبي و التمويل، و السياحة وإقامة المشاريع الجديدة، و انتشارها في الأرياف و المدن و الأطراف ، لا يتحقق إلا مع الأمن الإجتماعي، ولا يطمئن إلا في المناطق التي تنخفض فيها الجريمة والفساد، وتنتعش فيها نزاهة القضاء و ناجزيته والالتزام بالقانون و النظام .و يكفي أن نذكر هنا أن كلفة إختلال العدالة وشيوع الجريمة في دولة كالأردن تصل إلى ما يقرب 3% من الناتج المحلي الإجمالي أو ما يعادل 1 مليار دينار سنويا.وهي مرشحة للزيادة سنة بعد أخرى ما لم يتم تطبيق “برنامج وطني لمكافحة الجريمة”.
وإذا نظرنا إلى دليل النظام والقانون، نلاحظ أن الأردن يحتل مكانة جيدة تماما إذ يقع ترتيبه الـ (20) بين دول العالم، ومؤشر النظام والقانون 85%. وهذا يعني استعداد الأردنيين للالتزام بالنظام والقانون وقيام الدوائر الأمنية بدورها الصحيح. ولكن ضعف العقوبات وبطء القضاء و التدخلات و الوساطات والثغرات القانونية التي يستغلها المجرمون تفسد كل شيء. وإلا كيف من الممكن لمطلوب للعدالة أن تتراكم عليه 120 قضية؟ أين كانت العدالة؟ وأين كان القضاء من قضية إلى أخرى؟ إنها نموذج للضعف والتراخي .
وإذا كان الحديث عن الفساد يوحي دائما بالفساد الظاهر كالرشوة والمحسوبية والواسطة، فإن هناك الوجه الخفي للفساد والذي يمثله التهاون في تطبيق القانون و النظام، والتساهل مع المجرمين فينتقل فساد المجرمين إلى صفوف المجتمع.و يدخل المجتمع في دوامة يصعب الخروج منها. إن إقامة العدل و مكافحة الجريمة ليست محل خلاف أبدا. إن جميع الموطنين يتطلعون لأن تأخذ الحكومة و مجلس الأمة الخطوات الحازمة الحاسمة على طريق بناء مستقبل أكثر أمنا،وأشد التزاما بالقانون والعدل.