انطفأت في سماء عمان، قبل بضعة أيام، نجمتان متلألئتان، كانتا ترصّعان فضاءها الاجتماعي كدرّتين منثورتين بتناسق وانتظام. وبكلام أكثر اشتعالاً بالحزن والالتياع، كانتا، ابنتا رابيكا وعامر السلطي، صفصافتين باسقتين، انكسرتا في غفلة من الزمان.
إنهما ثريا وجمانة، الشابتان اللتان ذهبتا في ظروف شديدة الالتباس، تاركتين خلفهما سؤالاً محيراً للعقل السوي، وموجعا للخيال، شمل الأهل والأصدقاء والمعارف، وطال وجدان كل من وقع النبأ الصاعق على مسامعه: لماذا.. ولماذا؟ فقط، وكل ما لديهما من مقومات شخصية وإنجازات، وما في أعطافهما من سجايا وخصال، تدعو حقا إلى الاحتفال بالحياة، وفوق ذلك ليس في عالمهما الشخصي خصومة أو نزاع مع أحد في بيئة العمل، ولا كراهية أو عداوة في محيطهما العائلي.
علمت بالخبر الصادم بعد منتصف ليل ذلك النهار الحزين، عندما فتحت شاشة الكمبيوتر، على غير عادتي في مثل هذا الوقت المتأخر، ورأيت أول ما رأيت صورة الشابتين الطافحتين بالغبطة والاعتداد بالذات. فهالني الحدث، وانتابني شعور جارف باليأس، جراء عجزي حتى عن إجراء اتصال هاتفي مع ذويهما، أو مع أحد الاصدقاء المشتركين، لمشاركة الملتاعين حس الفقد المباغت وعذاب السؤال.
ومثلي مثل سائر الذين داهمهم النبأ، سواء من كان يعرف الشابتين عن قرب، أو لم يسمع بهما إلا بعد أن باتت الواقعة الغامضة ملكاً للرأي العام، رحت بين مصدق ومكذب أسائل نفسي، وأتحدث مع من حولي؛ كيف يمكن لثريا وشقيقتها جمانة، أن تجرؤا على مثل هذا الموت العنيف، وهما الإنسانتان الوادعتان الرقيقتان، الشغوفتان بإطلالتهما الندية، وبصورتهما الإيجابية بين الناس؟ إذ إن من يعرف هاتين الشقيقتين الرائعتين عن كثب، أو تواصل معهما ذات يوم، يشق عليه تصديق الرواية للحظة واحدة؛ أي أن تقدما بإرادتهما الذاتية على إيذاء نفسيهما، أو أن تقسوا على أبويهما كل هذه القسوة التي تهد جبال. فما بالك ولثريا بنت متعلقة بأمها تعلقاً قل نظيره بين الأطفال، وأنها السيدة التي يُضرب المثال في نجاحها على المستويين المحلي والإقليمي؟
وأحسب أن عامر؛ العصامي المتواضع، الذي اشتعل في رأسه الشيب مبكرا، لا يستطيع في قرارة نفسه تصديق أن قنديلي عمره، موضع حبه واعتزازه الخاص، قد قررتا هكذا، من دون أي سبب، أن تلقيا على كتفيه المتعبتين هذه النازلة الثقيلة. كما أحسب أيضاً أن لا شيء يعزي ربيكا، وهي فرس السباق التي قطعت كامل الشوط بحيوية واقتدار، ونالت استحقاق الأمومة بامتياز، بعد أن وجدت الشمعتين اللتين تضيئان البقية الباقية من العمر، قد ضاعتا من بين يديها في غمضة عين.
حين مضيت إلى بيت العزاء مثقلاً بمشاعر شتّى، وموزعا بين خياري الذهاب والامتناع، كان يعز عليّ أن أرى الأبوين المكسورين وهما يتلقيان المواساة. لذلك فقد قبلتهما بحرارة من دون أن انطق بكلمة واحدة. وحتى عندما رغبت في تدوين عبارة لائقة في الدفتر الخاص بالمعزين، اعترفت بخط اليد، أنا الذي حِرفتُهُ الوحيدة هي الكلام، بأنني عاجز عن الإتيان بالقول المناسب للمقام.
أود أن أختم هذه المشاركة، التي هي ليست رثاءً ولا هي كلمة عزاء، بما قالته لي ابنتي الكبرى رشا، حين كنا نتبادل الحديث حول هذه المأساة، وهو أن النساء اللواتي ينتحرن، لا يفعلن الموت الجماعي كما تفعل الحيتان، وأنهن في الواقع يخفن من الموت العنيف، لذلك فهن يقدمن على الموت الاضطراري، إذا أقدمن عليه، إما بتناول كمية من حبوب الدواء، أو بقطع شرايينهن في أسوأ الأحوال، ولا يلقين بأنفسهن تحت عجلات القطار مثلا، أو يقفزن من مكان شاهق، فما بالك إذا كانتا تلعبان “الغولف” يومياً للحفاظ على اكتمال القوام.