السقطات الأخلاقية والتجاوزات القانونية للعديد من المواقع الإخبارية وصحيفة واحدة على الأقل، تساوت مع -إن لم تتجاوز- فداحة فقدان الشقيقتين ثريا وجمانة السلطي. ذلك أن مواقع عديدة اتكأت على سيل من التسريبات الرسمية، غير آبهة بتلويث سجل سيدتي مجتمع، حافل بالنجاح المهني والدراسي، كما الخير والعطاء والتميز.
لذلك، تستحق عائلة الشقيقتين وطفلة المرحومة ثريا، رد اعتبار من هذه المؤسسات الإعلامية التي أساءت إليهم، كما فعلت مصادر رسمية امتهنت -بقصد أو بغير قصد- كرامة الضحيتين عبر تسريب تفاصيل عن التحقيق الأولي، شجّعت متلقيها على استباق نتائجه والدفع بجزم فرضية الانتحار.
ولو كنت مكان عائلة الضحيتين لحركت 100 قضية قدح وذم، وتشهير وامتهان كرامة، وتدخل في أدق تفاصيل حياتهما الخاصة، في مخالفة لعشر مواد على الأقل في قانون العقوبات.
لماذا؟
لردع هذه المؤسسات المسيئة، وسط غياب دور نقابة الصحفيين، المفترض أن تطهّر قطاع الإعلام من المسيئين، منهم بعض من أعضائها الذين يفترض أن يلتزموا بالقسم القانوني لممارسة هذه المهنة المقدسة! إذ خرق هؤلاء معايير جودة المنتج الإعلامي، ونسفوا أسس الأمانة الصحفية، ونواميس “السلطة الرابعة”، ومدونات سلوكها. كما أنهم نشروا/ بثّوا أسماء الضحايا بدلا من الأحرف الأولى قبل انتهاء التحقيق أو صدور أحكام قطعية، في خروج عن عادة التعاطي الإعلامي والرسمي مع قضايا مشابهة. ولم يستخدموا كلمة “مزاعم” شبهة انتحار. وهم بالتأكيد جرحوا مشاعر والد السيدتين ووالدتهما، وأقربائهما وآلاف الأصدقاء والأحباء، ممن يستحقون الاحتفاظ بذكريات جميلة عن قصة حياة ونجاح ثريا وجمانة، بدلا من اختزان صور عالية الجودة للجسدين في أرض الجريمة لن يستطيع أحد محوها من الشبكة العنكبوتية.
كما أن هذه الإساءات ليست الأولى ولن تكون الأخيرة لعدة أسباب. فكيف نتوقع توقف التعدي على خصوصيات الأفراد ونحن لم نر موقفا واضحا لنقابة الصحفيين، أو تحركا للجنة الشكاوى التابعة لها الآن أو سابقا، وسط بطء إجراءات التقاضي، بخاصة المتعلقة بالتهم الجزائية، ما يثني العديدين عن طرق أبواب القضاء.
وهناك تحدّ آخر عنوانه العريض تضعضع مهنية وأخلاقيات قائمين على مواقع إخبارية، اختارت الإثارة وفق أسس “الصحافة الصفراء” القائمة على الفضائح والتشهير، والتجهيل والتخندق، أو التكسب والابتزاز، لضمان استمراريتها، بدل نشر الحقائق لبناء صدقيتها في خدمة الناس. وتحت ذلك العنوان تفاصيل وممارسات معيبة ومقززة.
وثالثا، لأن مجلس شكاوى الإعلام المرتقب لن تقوم له قائمة قبل أن توافق نقابة الصحفيين على أن نجاحه يكمن في استقلاليته وليس من خلال عمله، وفق بند يضاف إلى قانون النقابة.
إذ يفترض بهذا المجلس أن يكون هيئة “تنظيم ذاتي”، تضم إعلاميين مستقلين، بما ينظم العلاقة بين وسائل الإعلام والجمهور، ويتلقى الشكاوى حول أي محتوى إعلامي مستفز، أو عن أي تعد على الحريات الإعلامية أو أضرار ألحقتها مؤسسات إعلام بالأفراد أو المجتمع.
ورابعا، لأن الأمن العام لن يسائل المصادر القريبة من التحقيق، والتي يبدو أنها سربت -بقصد نبيل أو نوايا سيئة- تفاصيل المأساة العائلية لمواقع إخبارية، خارقة بذلك سرية التحقيقات، بعد نشر البيان الأول ذي التفاصيل العامة عقب العثور على الجثتين يوم الجمعة.
التفاصيل المسربة بسرعة البرق تضمنت ما تمت معاينته من مسرح الجريمة، بما في ذلك رسالة مكتوبة بخط اليد تطلب فيها إحدى السيدتين من والدتها رعاية ابنتها، وأدوية معينة من باب الإيحاء إلى حالتهما النفسية. وكذلك الغمز واللمز بقناة الانتحار بدلا من الحديث بعموميات عن تحقيق قائم ستعلن نتائجه فور اختتامه، مع الإشارة إلى أن جميع الفرضيات موضع دراسة.
طبعا، تتكرر هذه التسريبات مع غالبية الأخبار الرسمية المتصلة بجرائم قتل، أو انتحار، أو اختفاء، أو هروب بقصد الزواج بين أتباع ديانتين مختلفتين، مع أن لذلك أصولا في علوم التواصل الإعلامي. وفي أحيان، قامت الدنيا ولم تقعد في مناطق تأثر سكانها -من الكتل المجتمعية المتجانسة- ردا على إيحاءات تضمنتها بيانات وتسريبات مرافقة مست شرف العائلة/الحمولة، ما دفع مسؤولين إلى اتخاذ إجراءات تصحيحية لتطييب الخواطر وتهدئة النفوس.
ربما تشكل قضية الشقيقتين وتعاطي الإعلام معها، نقطة تحول نحو ضرورة تعرية المسكوت عنه حيال السقطات المهنية المتنامية في قطاع الإعلام، لعدة عوامل موضوعية؛ منها مكانة الشقيقتين الاجتماعية، ونجاحهما العملي والأكاديمي، وعشقهما للحياة وغياب الشعور بالعجز أو اليأس أو الفشل، بحسب إجماع الآلاف المؤلفة من الأصدقاء القدامى والزملاء.
جميعها شكّلت عوامل إثارة لعديد إعلاميين. المرحومة ثريا (47 عاما)، كانت أول رئيس لمؤسسة “إنجاز” للناشئين لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا؛ إحدى كبريات المؤسسات الدولية المكرسة لتعليم آلاف الطلبة مفاهيم الاستعداد للانضمام للقوى العاملة وبناء روح المبادرة والريادة، ليغدوا قادة مشاريع ناجحة. وقد حصدت ثريا جائزة عالمية تلو الأخرى، وصنّفتها مجلة “آرابيان بيزنس” ضمن أقوى 100 امرأه عربية للعام 2014.
أما جمانة (37 عاما)، فكانت أول لاعبة أردنية في دوري كرة السلة للجامعات الأميركية. وتبوأت منصبا بارزا في مؤسسة تدقيق مالي عالمية/ فرع دبي.
ردّة فعل الشارع المشكك في فرضية الانتحار كانت قوية. ولم تتوقف منذ انتشار الخبر كالنار في الهشيم، بسبب طبيعة الحادثة الصادمة. إذ لم يصدر عن ثريا أو جمانة أي إشارات توحي بنيتهما الانتحار، وفق انطباعات آلاف الأردنيين والعرب والأجانب الذين صادقوهما أو زاملوهما.
لن تتوقف حملات التساؤل والتشكيك حتى مع صدور قرار لجنة التحقيق الأولية، التي أعلنت مساء الأحد الماضي أنها استبعدت أي شبهة جنائية، وإرسال محضر تحقيق الشرطة وإفادات الشهود والتقارير الطبية إلى مدعي عام جنوب عمان؛ صاحب الولاية المكانية لإجراء المقتضى القانوني.
سيل التعليقات على شبكات التواصل الاجتماعي يعبّر في الأغلب عن التشكيك في إمكانية وجود دوافع جنائية، بعد أن أسدل الستار مبكرا على قصة الموت الغامضة مع إعلان السفارة الأميركية في عمان دخولها على خط التحقيق في الحادثة (كون المرحومتين تحملان الجنسية الأميركية).
استمرار الممارسات الإعلامية غير الأخلاقية يهدد ما تبقّى من صدقية الإعلام وعلاقته بالجمهور. لذلك، على الإعلاميين الشرفاء التصدي لهذه الممارسات، حال نقابة الصحفيين والقائمين على تنفيذ القانون. ولنتخيل مشاعر كريمة ثريا حين تبحر مستقبلا في محركات البحث؟ ستقرأ مئات المقالات وشهادات رائعة من قلب كل من عمل مع والدتها. وستشاهد صورها بابتسامتها المعروفة، لكن ذلك سيترافق مع تلفيقات وتسريبات عن الحادث المؤلم، وصورها مسجاة على الأرض.
قبل أن ينجح الجميع في تطهير الإعلام من هذه الشوائب، ثمّة رجاء من كل إعلامي نزيه يحترم مهنته: ضع نفسك دائما مكان أهالي الضحايا ثم قرّر أيهما أهم: التركيز على الحقائق ونقلها بأمانة، أو تشويه صورة الناس بأكاذيب وتسريبات تخلط الحابل بالنابل؟