يقرر رئيس وزراء رومانيا إنهاء عمر حكومته، بأن يقدم استقالته قائلا: “يمكنني خوض أي معركة سياسية، لكنني لا أستطيع محاربة الشعب”؛ وذلك على خلفية حريق في ملهى ليلي راح ضحيته 32 شخصا.
ورومانيا ليست إلا إحدى دول أوروبا الشرقية، وقد كانت ترزح، إلى وقت قريب نسبياً، تحت حكم دكتاتوري، وغارقة حتى أذنيها في الفساد. لكن ها هي اليوم تعلّمنا درسا في المسؤولية الأخلاقية السياسية.
إذ حتى ما قبل قرابة خمس وعشرين سنة، لم يكن لأحد تخيل قدرة الشعب الروماني على الإطاحة بالرئيس القوي نيكولاي تشاوشيسكو في العام 1989، بعد حكم مستبد استمر عقداً ونصف العقد. لكن الملفت هو كيف تعلم هذا الشعب وسواه من شعوب العالم أيضاً، لعبة الديمقراطية واحترام المواطنين/ الناخبين، لكأن تجربتها بدأت منذ قرون! وها هي تقدم لنا دروسا في احترام مبدأ “الشعب مصدر السلطات”.
عندنا، يبدو أننا غير راغبين في إتقان “اللعبة”رغم أننا بدأنافي ممارسة اللعبة الديمقراطية في ذات العام. إذ ثمة حوادث خطيرة وقعت لدينا خلال السنوات الماضية، كانت كفيلة بأن تؤدي إلى سلسلة استقالات لو أنها أصابت دولا أخرى، غير عربية طبعاً.
مؤخرا في عمان، أودى حريق ضخم لحاويتي ألعاب نارية، قبل أيام، بحياة 8 أشخاص أبرياء. لكن الحكومة لم تفكر في الإقدام على خطوة باتجاه المساءلة، حتى جاءت الإشارة بأن المسؤولية الأخلاقية تحتم اتخاذ إجراء ما، فكان القرار بالتضحية بمدير عام الجمارك. وفي رومانيا كان ممكنا، أيضا، التضحية بوزير السياحة أو الداخلية، أو حتى رئيس بلدية، لطي الملف، إلا أن الحكومة مجتمعة آثرت تحمل المسؤولية، والتنحي.
كذلك، وفيما كانت عمان تغرق، يوم الخميس الماضي، مقدمة أربع ضحايا، كان مركز الأزمات غائبا عن المشهد. وحتى اللحظة، لم نسمع من الحكومة كلمة واحدة تؤكد مسؤوليتها الأخلاقية، وتعترف بالخطأ، اللهم باستثناء ما صدر عن وزير الداخلية سلامة حماد، حول إغلاق المناهل. لكن لو حدث هذا في رومانيا، فالله اعلم من كان سيستقيل!
ثمة تقاليد راسخة لدى الدول التي تحترم شعوبها في التعامل مع الأزمات. ونحن في الأردن ما نزال نفتقد، للأسف، هذه التقاليد. ولم نر مسؤولا واحدا سعى إلى تكريسها، من خلال التنحي، تعبيراً عن شعوره بالتقصير أو الفشل في تجنيب المجتمع حوادث أليمة.
رئيس وزراء رومانيا لم يشعل النار بيده في الملهى الليلي؛ ومسؤولو المشروع النووي الياباني ليس لهم علاقة بالتسونامي الذي ضرب مفاعل فوكوشيما العام 2011. لكن تحملهم المسؤولية حتى النهاية، بالاستقالة، إنما يعكس احترامهم للمجتمع وتقديرهم مشاعره، حتى قبل أن يحرك ساكنا بالاحتجاج. وهذا شكل من أشكال احترام “الآخر” الذي تحضنا عليه حكومتنا، فكيف إن كان هذا “الآخر” هو الشعب في مواجهة الحكومة ذاتها!
في كل مرة يقع حادث جلل يستفز الناس ويصبح محور حديثهم، ترتفع الأصوات المطالبة برحيل المسؤول الفلاني أو العلاني. إلا أن هذا لا يعني شيئا طالما أن المسؤول لدينا لم يستوعب بعد فكرة المسؤولية الأخلاقية التي يفرضها عليه موقعه السياسي. بل على العكس، ما يفعله المسؤول غالباً، إن لم يكن دائماً، هو السعي إلى البقاء في الموقع، ولو بالتضحية بكل مبادئه التي طالما رفع صوته مطالبا بإعمالها.
لدينا، لا أحد يستقيل ولا ما يحزنون! وأكبر ثمن يمكن دفعه هو التضحية بموظف تنفيذي، فيما الأخطاء تتواصل والمشاكل تكبر، في غياب مفضوح لمبدأ الثواب والعقاب، وبالتالي تراكم الفشل المستفز بدوره، في تكريس مبادئ تؤكد عدم احترام المسؤول للمجتمع، وأهم من ذلك ضعف تقدير حياة الناس.