في التصنيف العالمي، عمان مدينة كبرى، وهي كذلك بالمعايير الوطنية؛ نصف سكان المملكة تقريبا يعيشون فيها. والمدن الكبرى لا تدار شؤونها بالطريقة المركزية التي تدار فيها عمان.
نمت عمان بسرعة مذهلة في العقدين الأخيرين. الزائر للمدينة يلحظ الفرق سنة بعد أخرى. العمران يتمدد بكل الاتجاهات، ولا يستثني سهلا كان أو جبلا. كل يوم ينضم إليها سكان جدد. إذا غبت عن شارع عدة أشهر، تكاد لاتعرف معالمه عندما تعود إليه.
وفوق هذا وذاك، تشهد عمان تغيرا دراماتيكيا في تركيبتها الديمغرافية؛ خاصة في السنوات الخمس الأخيرة.
عندما تتحول المدن إلى كيانات كبرى، لا بد من تطوير طرق إدارتها، لتقديم أفضل الخدمات لقاطنيها، وتوجيه مواردها لمواكبة احتياجات البنية التحتية. في عمان حصل العكس تماما؛ تضخمت المدينة، فجعلنا من بلديتها “أمانة كبرى”، مؤسسة بيروقراطية مثقلة بالموظفين، تتحرك ببطء، وتعجز عن الوفاء بالتزاماتها بالشكل المطلوب.
وللتخفيف من وطأة العمل المركزي، جرى استحداث فكرة التنظيم المناطقي، حيث تم تقسيم عمان إلى مناطق “16 منطقة” إدارية، لكن بالرغم من الصلاحيات الممنوحة لمديري المناطق، وهيئاتها الإدارية، إلا أنها ظلت محكومة بقرارات مركزية، خاصة في الواجبات الرئيسية المتعلقة بالتنظيم والترخيص، والمشاريع.
واقعيا “المناطق” هياكل شكلية، لا تتمتع بالاستقلالية اللازمة من الناحيتين المالية والإدارية. المرجعية في الأمور كافة تعود إلى أمين العاصمة، ومجلس الأمانة الذي يضم خليطا من المنتخبين والمختارين، تتجاذبهم مصالح مختلفة، وحسابات متباينة ويفتقرون للانسجام المطلوب.
ولا أظن أن مشكلة عمان، هي في كون الأمين منتخبا أو معينا، وأشاطر الكثيرين شكهم بأن شيئا ما سيتغير في “الأمانة” إذا كان عمدتها منتخبا.
عمان اليوم مثل طائرة عملاقة تعمل بمحرك صغير؛ مهما حاولت فلن تفلح في التحليق، فما بالك إذا كان المحرك قديما وثقيلا، ولم تجدد فيه قطعة واحدة.
ومع ذلك فإن وضع أمانة عمان ليس بذلك السوء الذي يصوره البعض، فما تزال محركاتها تعمل بكامل طاقتها، وتقدم خدماتها بشكل جيد في الظروف الاعتيادية، لكن إذا استمرت تعمل بنفس الهيكلية الحالية، فستواجه مشاكل عويصة في المستقبل. ماحصل في”الشتوة” الأخيرة، ومثلها في السنوات القليلة الماضية، بمثابة جرس إنذار ينبغي أخذه على محمل الجد.
يتعين التفكير جديا بتفكيك أمانة عمان الكبرى، وتقسيمها إلى ثلاث بلديات على أقل تقدير، تتمتع كل منها باستقلال مالي وإداري كاملين، ومجلس بلدي يدير شؤون المناطق التابعة له دون الحاجة للعودة إلى المركز بكل صغيرة وكبيرة.
المدن الكبرى التي نعرفها ونزورها في العالم ليست بلدية واحدة؛ اسطنبول مثلا تضم عدة بلديات، وكذلك برلين، وسواها من المدن العالمية.
التقسيم سيمنحنا إدارات رشيقة، تتحكم على نحو أفضل بكوادرها، وموازناتها، وتراقب مستوى الخدمات، وتضمن تحصيل حقوقها بدلا من الديون المتراكمة والمعدومة بالملايين حاليا. وفي المقابل سيكون بوسع المواطنين، إنجاز معاملاتهم بسرعة أكبر، ومراقبة اداء جهاز الخدمة، ومحاسبة المقصرين.
والتقسيم فرصة لتجاوز الصور النمطية لعمان؛ شرقية وغربية، أغنياء وفقراء. المطلوب تقسيم يراعي الحاجة للاندماج السكاني،وتوزيع العوائد بشكل عادل، وتقديم الخدمات على نحو متساو بين مناطق البلدية الواحدة.
عمان لم تعد قرية صغيرة، كي نختصر مشكلتها في شخص واحد نصبّ جام غضبنا عليه. فلو كان “سوبر مان” لغرق في أنفاقها. دعونا ولو لمرة واحدة نفكر خارج الصندوق، ونبحث عن حلول استراتيجية ومستقبلية، بدل هذا الاستغراق في جدل المناهل والمصارف.