تتصاعد الأوضاع في الضفة الغربية والقدس من تسخينٍ إلى تسخين بالرغم من كل الجهود التي تَبذلها عدة أطراف دولية وإقليمية لمنع تمدد ما يجري في الداخل الفلسطيني المحتل عام 1967 بما في ذلك الحيلولة دون تحوّل الهبات الشعبية اليومية لانتفاضة كبرى ثالثة، في وقتٍ تتخبط فيه الأجهزة الأمنية “الإسرائيلية” بتقديراتها وتوقعاتها لمآل التطورات الميدانية، حيث أجرت تلك الأجهزة نقاشات عاصفة وحوارات غير بسيطة حول تعريف ما يجري في الضفة الغربية ومناطق القدس المختلفة، فهل هي انتفاضة جديدة، أم أنها موجة وهبة شعبية فلسطينية، أم أحداث عنف…؟ لكن جميع الأجهزة الأمنية والعسكرية “الإسرائيلية” اتفقت على أَمرٍ واحد فحواه “أنه حتى لو حدث هدوء، فسيكون مؤقتًا فقط، ثم سيأتي تصعيد إضافي أخطر منه، إذا لم يكن هناك مسار سياسي للحل بخطوات أكثر دراماتيكية تتجاوز إعاقات التسوية المتوقفة منذ وقتٍ طويل”.
وعليه، الأجواء في الداخل الفلسطيني مُكفَهرة ومُلبدة بالغيوم السياسية التي لا تُبَشّرُ بحدوث اختراقات سياسية في ظل مَوات وسُبات عملية التسوية، بمقدار ما تُبَشِّرُ بشتاء الغضب القادم في الأراضي الفلسطينية. وفي هذا المجرى من التفاعلات المُتسارعة، فإن التقديرات تنحو باتجاه التنبؤ بإمكانية توالد ثلاثة سيناريوهات خلال المرحلة التالية التي ستشهد غصات سياسية إضافية.
السيناريو الأول، يَتمثل بتوقعات تقول بتزايد أجواء الاحتقان داخل الأرض المحتلة، خصوصًا مع استمرار عمليات التهويد المتسارعة، وهو ما يدفع ويهيئ التربة والمناخ العام لبروز شرارات انتفاضة فلسطينية ثالثة، تُعيد طرح الموضوع الفلسطيني برمته من جديد، وبخيارات مُختلفة، بالرغم من حالة الإنهاك الشديدة التي أثقلت كاهل الفلسطينيين في الداخل خصوصًا في قطاع غزة مع الحصار المتواصل منذ سنوات. وبالتأكيد فإن توالد خيار الانتفاضة ونجاح هذا الخيار في تعبيد الطريق أمام تحقيق إنجازات فلسطينية، يتطلب استراتيجية عمل وطني فلسطينية ائتلافية مُشتركة بين جميع القوى دون استثناء، خاصة حركتي حماس وفتح والجبهة الشعبية وباقي القوى، وهذا ما يبدو بَعيد الحصول حسب المؤشرات القائمة في المرحلة الحالية مع استمرار الانقسام الفلسطيني الحاد. وبالتالي فإن العوائق الداخلية الفلسطينية الناجمة عن الانقسام والازدواج البرنامجي بين الفريقين الرئيسيين في المعادلة الفلسطينية ما زالت تَعترض الطريق نحو انتفاضة جديدة ومُتجددة.
أما السيناريو الثاني، وهو السيناريو الأكثرُ احتمالًا وتواترًا، فيتمثل بدخول مختلف الأطراف الدولية على خط ما يجري في الداخل الفلسطيني من أجل تهدئة الأوضاع ومنع انفجارها. وفي مقدمة تلك الأطراف الولايات المتحدة والدول النافذة في مجموعة الاتحاد الأوروبي (الدول المانحة)، إضافة لبعض الأطراف الإقليمية، والعودة لإحياء العملية التفاوضية (الميتة سريريًّا)، مع ما يستوجب ذلك من قيام الولايات المتحدة بتقديم ترضيات تفاوضية صغيرة لإعادة الطرف الفلسطيني الرسمي لطاولة المفاوضات، وبالتالي العودة لدوامة المماحكات داخل غرف التفاوض المغلقة دون إنجاز أي تقدم ملموس. وفي أسوأ الأحوال الضغط على الطرف الفلسطيني لمنع قيام انتفاضة فلسطينية، وذلك عبر وقف تدفق أموال الدول المانحة، وقيام سلطات الاحتلال بوقف تحويل أموال الضرائب المُجباة لصالح الطرف الفلسطيني لقاء البضائع المُتدفقة للمناطق المحتلة عام 1967.
وفي إطار السيناريو الثاني المشار إليه أعلاه، يبدو لصناع القرار في “إسرائيل” أن الإجراءات القمعية التي تم اعتمادها غير مجدية في ردع الشبان الفلسطينيين. وبما أنها غير مستعدة لخيارات أكثر دراماتيكية تؤدي إلى انفجار شعبي فلسطيني واسع، ولا هي في الوقت نفسه قادرة على التكيف مع الواقع الذي فرضه الشبان وترك آثاره وتداعياته على المجال الأمني والاقتصادي والاجتماعي، كان لا بد من مخرج دولي بالعمل مع الولايات المتحدة لاجتراح حل احتوائي يلبّي المطالب “الإسرائيلية” المرحلية، ولا يعالج المشكلة من جذورها، بل حتى يقطع الطريق على أي توظيف يمكن أن تستفيد منه السلطة الفلسطينية، وكل ذلك مقابل وعود أعطتها “إسرائيل” لوزير الخارجية الأميركي جون كيري بأنها ستحافظ على الوضع الراهن في المسجد الأقصى، حيث أشار جون كيري لعدة عناوين رئيسية تسلمها من نتنياهو تصف فيها “إسرائيل” رؤيتها كالآتي “تحترم إسرائيل الدور الخاص للأردن في القدس كما تم تعريفه في اتفاق السلام بين البلدين، ويلتزم نتنياهو أمام جون كيري بأن تواصل إسرائيل سياسة العبادة الدينية التي تطبقها منذ سنوات طويلة في الحرم، التي تقول إنه يمكن للمسلمين الصلاة في الحرم القدسي بينما يمكن لغير المسلمين زيارته ولا يمكنهم الصلاة فيه”.
أما السيناريو الثالث فهو السيناريو الأقَل احتمالًا رغم التلويح المُستمر به من قبل رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية محمود عباس، ويَتَمَثّل بحل السلطة كما تُطالب بعض فصائل منظمة التحرير الفلسطينية، ما يؤدي إلى خلط الأوراق والعودة إلى المُربع الأول، باعتبار أن وجود سلطة ضعيفة مُقيّدة سيكون أفقها مسدودًا. ويرى أصحاب هذا الخيار أن حَلّ السلطة الفلسطينية يَفترِضُ أن يُستتبع حال سريان مفعول هذا السيناريو، إعادة مُجمل القضية الفلسطينية إلى دائرتها الأولى في مجلس الأمن الدولي والجمعية العامة ووضع المجموعة الدولية أمام مسؤولياتها وتسليمها إدارة شؤون الشعب الفلسطيني الواقع تحت المحتل في مناطق العام 1967، والسير على طريق خيار حل الدولتين على اعتبار أن خيار حل الدولتين على حدود الرابع من حزيران عام 1967 هو خيار أممي يحظى بإجماع العالم بأسره، كما هو خيار منظمة التحرير الفلسطينية، واستيلاد نموذج استقلال جمهورية كوسوفو المُطلة على بحر الأدرياتيك، والتي اعترف بها الأوروبيون وعموم دول الاتحاد والولايات المتحدة قبل انفكاكها واستقلالها الكامل عن يوغوسلافيا السابقة وأجزاء من جمهورية ألبانيا.
أخيرًا، إن الأجواء السياسية العامة المُخيّمة على منطقة الشرق الأوسط، وساحة الصراع في فلسطين، تشي بأن السخونة السياسية آتية على الأغلب، وربما تترافق معها سخونة في التصعيد العسكري من قبل قوات الاحتلال ضد الفلسطينيين في الداخل، وضد قطاع غزة على وجه الخصوص، حيث التلويح “الإسرائيلي” المُستمر بإمكانية القيام بعملية عسكرية لإضعاف الحالة الفلسطينية عامة، ومشاغلتها، ومنع قيام أي عملٍ إنتفاضي في الضفة الغربية.