لو أن للقلق بنكا خاصا، يمنح التسهيلات بلا ضمانات، وللتفاؤل الحذر رصيداً لا ينفد من المدخرات والودائع بلا فوائد، لكان الدبلوماسيون أثرى أثرياء العالم؛ لكثرة ما يسحبون على المكشوف من دفعات قلق، ولشدة ما يصدرون من شيكات بلا مؤونة من هلام التفاؤل الحذر! ولربما كان الأمين العام للأمم المتحدة، المفرط في الصرف من بند القلق، أغنى من بيل غيتس نفسه.
هكذا تجلى المشهد الدبلوماسي الباذخ في فيينا آخر الأسبوع الماضي، حيث تقاطر ثمانية عشر وزير خارجية، وهم يرفلون في ثياب القلق الفاخرة، ويوزعون مشاعر التفاؤل الحذر بسخاء على العامة. وبما أن الدبلوماسيين لا يفشلون أبداً، ولا يعترفون مطلقاً بالإخفاقات، مهما انغلقت الأبواب في وجوههم، فلن تعوزهم براعة المهنة، للعثور على الصياغات الملائمة، لمداراة فشلهم المحقق من دون مراء.
على هذا النحو خرج اجتماع فيينا ببيان يعلن عن إحراز بعض التقدم، ويبث قدراً طيباً من التفاؤل، أحسب أنه كان يخاطب المؤتمرين، أكثر من كونه موجهاً للمخاطبين بالمأساة المتفاقمة في عموم الديار الشامية؛ أولئك الذين انعقد المحفل النمساوي باسمهم، وفي غيابهم، وتداول في كل أمر يشغل بالهم، إلا الأمر الذي يحتل أولى أولوياتهم، وهو وقف إطلاق النار، كمقدمة حصرية لبدء مداواة جراحهم.
والحق أن لقاء فيينا الثاني، كان فرصة لتسديد اللكمات الدبلوماسية بيد من حرير، وتسجيل النقاط المتبادلة فوق الخاصرة، أكثر من كونه مناسبة لالتقاط جمرات الأزمة السورية برؤوس الأصابع الناعمة، لاسيما بالنسبة لناظر الدبلوماسية الروسية المخضرم، الذي سدد هدفين ثمينين في مرمى أنداده؛ أولهما جلب إيران إلى المائدة، وثانيهما تأجيل التداول بمصير بشار الأسد إلى أجل غير مسمى.
إذ بالقدر الذي بدت فيه روسيا صاحبة اليد العليا في الأجواء السورية، بدت كذلك ربة البيت في فندق إمبيريال فيينا. وما عدا ذلك من حشو الكلام، عن توافقات حول وحدة أراضي البلد المنكوب، ومحاربة “داعش”، والحفاظ على أركان الدولة التي خسرت 80 % من جغرافيتها، بل وحتى دعوة الأطراف المتصارعة إلى الشروع بحوار مباشر تحت رعاية أممية، كلها كانت مجرد محسنات لفظية، من قبيل لزوم ما لا يلزم.
ويكفي أن نأخذ من بيان فيينا الفقرة الخاصة بدعوة السوريين للحوار فيما بينهم، لنجد أن دون ذلك خرط القتاد، حتى لا نقول إنه الهذر بعينه. فمن هم الذين سيدعون للحوار من المعارضة؟ وعلى أي ارضية ستجري هذه العملية؟ وهل سنعود إلى حكاية البيضة والدجاجة؛ أي الأولوية لمكافحة الإرهاب، أم لتشكيل حكومة تنفيذية لعبور المرحلة الانتقالية؟ وهل باستبعاد الكتائب الإسلامية يمكن لأي حوار داخلي أن يحقق هدفه؟
بكلام آخر، فقد تجاهل المؤتمرون في فيينا حقيقة أن المسار العسكري للأزمة الطاحنة، يتقدم العملية الدبلوماسية بأشواط طويلة، وأن المجريات الميدانية هي التي ستقرر الأمر في نهاية مطاف غير معلوم مآلاته، لاسيما بعد أن ألقت موسكو بثقلها العسكري، وحشرت واشنطن في الزاوية الضيقة، بفرض أمر واقع لا يمكن تعديل موازينه المختلة، إلا بتدخل مواز، ولو على نحو غير مباشر، وهو ما يرجح أن هذه الأزمة لا حل لها إلا بالقوة.
وأحسب أن هذه التراجيديا التي بلغت عامها الخامس، لن يتم حلها دبلوماسياً، إلا إذا تمكنت روسيا من حسمها لصالح الأسد، بتدخّل باهظ الكلفة على الأرض، أو إذا عمدت الولايات المتحدة إلى تسليح المعارضة بصواريخ مضادة للطائرات، وتم إسقاط ثاني أو ثالث طائرة سوخوي، الأمر الذي من شأنه رفع درجة حرارة الأزمة إلى حد الغليان، وحمل الدبلوماسيين على العودة إلى فيينا بسرعة، وفي حوزتهم المفاتيح الذهبية اللازمة لحل الأزمة، لا إدارتها فقط.
وعليه، فقد بدا المؤتمرون في العاصمة النمساوية، وكأنهم قد أنفقوا سبع ساعات من وقتهم الثمين، وهم يغمسون خارج صحن الأزمة، التي لم تنضج مكوناتها بعد، رغم كل هذه النار المحتدمة تحتها. وإلى أن تستوي طبخة الحصا هذه، ويصبح في مقدور الدبلوماسيين تناولها بالسكين والشوكة، حسب آداب مائدة الطعام ولياقاتها، فإن من المرجح بقوة، ومع الأسى والأسف الشديدين، أن تتصاعد حدة الحرب أكثر، وأن تكتوي بنيرانها آلاف مؤلفة أخرى من الضحايا البريئة.