وقف باراك أوباما يوم الجمعة الماضي ليقول: من حق إسرائيل أن تحمي مواطنيها، وهذا الكلام لو صدر عن ملاحظ لقبلناه ولكنه صدر عن راعي السلام، أي المسؤول عن رعيته ومن رعيته من باب الافتراض شعب فلسطين وهو ضحية احتلال منذ 1967 باعتراف الأمم المتحدة.
وهكذا تتواصل سياسة نسيان أصل الداء لمعالجة تداعياتها، بينما أصبح سياسيون يهود يجاهرون بتنديدهم بالعنجهية الإسرائيلية، ربما لأنهم تيقنوا أن هذه الحكومة اليمينية العنصرية تسعى بالدولة العبرية لحتفها وربما لأنهم يشكلون نخبة اليهود المثقفين المحترمين ينطقون بما يعتقدون أنه الحق.
ففي دوامة القتل والتنكيل الراهنة وتعويض الحجارة والعصر الحجري للانتفاضات السابقة بعصر السكين والدهس، تكلم أشهر المثقفين والسياسيين اليهود وأجرأهم (الفرنسي الألماني دانيال كوهن بانديت اليهودي الذي كان زعيما لانتفاضة الطلاب في باريس عام 1968) العضو الحالي في البرلمان الأوروبي، تكلم بجرأة هذه الأيام مخاطبا زملاءه البرلمانيين ووزيرة الخارجية للاتحاد الأوروبي، ليندد بالغطرسة الإسرائيلية التي، كما قال، تؤدي بإسرائيل إلى التهلكة.
وطالب بأن تساعد أوروبا على حل المعضلة بتغيير السياسة الخارجية الأوروبية من عبارات (القلق والانشغال) و(دعوة الأطراف إلى السلام) إلى موقف حازم إزاء العنجهية اليمينية الإسرائيلية بالسعي إلى حل الدولتين وإيقاف نتنياهو عند حده، بإعطاء أهل الأرض الأصليين حقوقهم المشروعة.
وبنفس اللغة تكلمت أم إسرائيلية مات ولدها مقتولا على أيدي قناص فلسطيني نشرت كتابا باللغة الفرنسية في باريس بالاشتراك مع أم فلسطينية استشهد ابنها على أيدي قوات إسرائيلية.
قالت تلك المرأة اليهودية: إننا لن ننعم بالسلام حتى تنعم فلسطين بحريتها وبدولتها المستقلة.
وبنفس الحماس تكلم أشهر المفكرين اليهود الأمريكان (ناحوم شومسكي) وزميله اليهودي الفرنسي (إيريك رولو) ونطقا بنفس الحقائق ومعهم الأستاذ الجامعي الإسرائيلي (شلومو صاند) في كتابه (أصول الخرافات التي أنشأت إسرائيل) والذي كشف فيه علميا بهتان تدليس التاريخ اليهودي لتبرير القمع والاحتلال.
وفي نفس هذه اللحظات التاريخية ألقى الرئيس محمود عباس خطابا ظهر في اختيار عباراته كأنه يريد تأكيد انحيازه لقضية شعبه وفي الوقت نفسه لا يغضب راعي المفاوضات الأمريكي ولا تصنفه الإدارة الأمريكية كما صنفته الحكومة الإسرائيلية كالمحرض على الانتفاضة. من الصعب أن يوفق أبو مازن بين المتناقضات وأن يقرأ شعبه ذلك الخطاب كإصرار على الاستمرار في التنسيق الأمني الذي دعا إلى التخلي عنه المناضل المثقف د. مصطفى البرغوثي في حديث جديد لإذاعة “بي بي سي”.
لعل محمود عباس رغم كل ما يقال هو الرمز الباقي لقضية فلسطين التي تقع منا جميعا موقع القلب، ولكنه اليوم يرى بعينيه ويلمس بيديه ويدرك بعقله أنه لم يبق شيء تفاوض عليه السلطة مع حكومة إسرائيلية متعجرفة وقائمة فقط على منطق القوة!.
نذكر أن أبو مازن استجاب من قبل لجامعة الدول العربية حين دعته لجنة المتابعة العربية من القاهرة إلى قبول مبدأ المفاوضات غير المباشرة حسب وعود أمريكية أبلغتها له الوزيرة هيلاري كلينتون عندما أكدت حينها منذ خمس سنوات بأن الرئيس أوباما بلغ حد الغضب من سلوكيات نتنياهو وهو يمنحه الفرصة الأخيرة، وحين أشارت إلى أن نائب الرئيس بايدن سيكون حازما هذه المرة، (تقصد أثناء زيارته آنذاك إلى إسرائيل)، فصدق أبو مازن تلك العبارات الأمريكية الدبلوماسية الذكية، أملا في أن يكون هذا الحل العربي الأمريكي آخر الحلول وأصر أبو مازن كعادته على ألا يكون هو البادئ باليأس وموصد الباب في وجه السلام، كما أكد هذه المعاني بحضور بايدن في رام الله حين زار السلطة.
واليوم مع انتهاك حرمة المسجد الأقصى والمضي قدما في بناء المزيد من المستوطنات وقتل الفتيان والفتيات بدم بارد وهدم منازل العائلات الآمنة لمجرد أن أحد أبنائهم ارتكب ما تعتبره السلطات العبرية (جريمة أو إرهابا)، هل ما زال أبو مازن يصدق الوهم وهو يسمع الوزير الأمريكي جون كيري يتذمر من انسداد أفق الحل ثم هو في ذات الوقت يكرر اللحن المعروف والمعزوف بأن الولايات المتحدة لا تتزحزح عن حماية أمن إسرائيل وكأنما هذا الأمن هو المهدد وليس أمن شعب فلسطين، من مسلمين ومسيحيين!، وهي مواقف لا تليق بالراعي لعملية السلام الذي يفترض فيه العدل وينتظر منه على الأقل احترام القانون الدولي وإرادة المجتمع الدولي!.