عروبة الإخباري- يؤدي استمرار الحرب الأهلية في سوريا إلى تحويل الجغرافيا السياسية الإقليمية، والتي يتجلى أحد آثارها الأكثر مأساوية على ما يبدو في توسيع موطئ قدم إيران في شرق البحر الأبيض المتوسط وبلاد الشام. وعلى الرغم من أنه من السابق لأوانه معرفة الآثار النهائية لهذه التطورات، إلا أن العديد من العواقب المحتملة قد أصبحت واضحة.
تدخل آخذ في التطور
عندما اندلعت احتجاجات “الربيع العربي” لأول مرة في سوريا، كانت طهران تزوّد نظام الأسد بمعدات لمكافحة الشغب وتكنولوجيا لمراقبة الإنترنت، فضلاً عن تقديمها المشورة حول كيفية التعامل مع المظاهرات، وذلك بناءً على نجاحها في سحق “الحركة الخضراء” التي شهدتها إيران في عام 2009. لكن بحلول عام 2012 أدّى رد النظام العنيف على الاحتجاجات السلمية إلى إشعال حرب أهلية دامية كان الأسد يخسرها. وبناءً على ذلك، ضغطت إيران على «حزب الله» للانضمام إلى القتال ونشرت مقاتلين من «قوة القدس» التابعة لـ «فيلق الحرس الثوري الإسلامي» لتقديم المشورة للسوريين، رغم أن بعضهم كان متورطاً في القتال تقريباً منذ البداية. كما وأشرفت طهران على نشر مقاتلين من الميليشيات الشيعية من العراق (2012) وأفغانستان (2013) وباكستان (2014) في سوريا.
وفي الوقت نفسه، أعادت إيران تنظيم “شبيحة” نظام الأسد المسلحين و”اللجان الشعبية” في إطار ميليشيا تضم حوالي 100 إلى 150 ألف مقاتلٍ تُعرف باسم «قوات الدفاع الوطني»، على غرار قوات «الباسيج» شبه العسكرية الخاصة بالجمهورية الإسلامية. هذا ويُعتقد إن ضباط «الحرس الثوري الإسلامي» يديرون عمليات «قوات الدفاع الوطني» التي جاءت لتنافس «الجيش العربي السوري»، إن لم تلقي ظلها عليه.
ومؤخراً نشرت إيران المئات من أفراد «الحرس الثوري الإسلامي» العاديين لزيادة عدد القوات السورية وتلك التي نشرها «حزب الله». ولكن من غير الواضح ما هو إجمالي عدد المقاتلين الإيرانيين هناك، حيث تتراوح التقديرات ما بين المئات (500 – 1000) والآلاف (1000 – 5000)، مما يزيد من عدد مقاتلي «حزب الله» الذي يتراوح ما بين 4000 و5000 وعدة آلاف من الميليشيات الشيعية الأخرى.
ومنذ اعترافها بأولى الوفيات التي وقعت خلال قتالها في شباط/ فبراير 2013، اعترفت إيران بمقتل حوالي 140 عنصراً من «الحرس الثوري الإسلامي» في سوريا، مما يشير إلى أن أعضاء هذا الحرس يشاركون بنشاط في القتال (انظر المرصد السياسي 2458، “أعداد الضحايا الشيعة تُظهر عمق تورّط إيران في المعارك في سوريا”). وربما أرسلت طهران مجموعة كبيرة من «قوة القدس» التابعة لـ «الحرس الثوري» إلى سوريا، من بينها بعض من أكبر قيادات هذه «القوة». وفي الواقع، لقي العديد من جنرالات «قوة القدس» مصرعهم في القتال. وعلى العكس من ذلك، أرسلت إيران مجموعة صغيرة نسبياً من قواتها البرية العادية التابعة لـ «الحرس الثوري»، والتي تضم حوالي 100 ألف عنصر، مفضلة استخدام عملاء الميليشيات الشيعية كوقود للمدافع ([وبالفعل]، كان عدد رجال الميليشيات الأفغانية الذين قتلوا في سوريا أكبر من عدد الإيرانيين الذي قتلوا هناك)، وذلك للحد من انكشافها وتحمل الخسائر البشرية لتدخلها.
لقد وضعت طهران الأساس لفرض تأثير طويل الأمد – ليس فقط من خلال إعادة تشكيل قطاع الأمن السوري بطريقتها، بل أيضاً من خلال توفير مليارات الدولارات من النقد والنفط للنظام بينما تخترق المجتمع المدني والاقتصاد السوري. وفي هذا السياق، أفادت بعض التقارير أن الكيانات الإيرانية تقوم بشراء العقارات وتؤسس الشركات وتتقدم بعطاءات للحصول على العقود الحكومية وتعزز التجارة لخلق شبكة من التبعية. كما وحاولت السلطات الإيرانية أن تضع يدها على الهندسة الديموغرافية، (من دون جدوى) عبر التفاوض على وقف إطلاق النار المحلي وتبادل السكان حول الزبداني وقريتي الفوعة وكفريا الشيعيتين. وباختصار، يبدو أن طهران تستخدم نفس قواعد اللعبة التي اتّبعتها لكسب النفوذ في العراق خلال العقد الأخير.
بيد، قد يؤدي التدخل الروسي الأخير إلى تعقيد الأمور بالنسبة إلى إيران. فإذا كانت طهران قد تدخلت بكل قواها في هذه الحرب بنشرها المزيد من القوات البرية في بداية العمليات القتالية، ربما لم يكن نظام الأسد بحاجة إلى مساعدة موسكو. وبدلاً من ذلك، لم تعد إيران الراعي الوحيد لسوريا، فهي تخوض الحرب الآن ضمن تحالف، وسيكون لروسيا حيز كبير من القرار حول كيفية خوض الصراع. ويشعر بعض السوريين بالاستياء من دور إيران وسيرحبون بعودة النفوذ الروسي على حساب طهران. لكن يبدو أن إيران وموسكو تعتمدان الموقف نفسه حتى الآن.
وباختصار، استمدّت طهران فوائد متعددة من المساعدات العسكرية والمالية التي قدمتها لسوريا. فمن خلال تدخلها في عام 2012، أنقذت حليفها الوحيد في المنطقة، وحافظت على جسر جوي لـ «حزب الله»، عميلها في لبنان، ورسّخت نفسها كحليف يمكن الاعتماد عليه في الأوقات الصعبة. وعندما تبيّن أن قدراتها الذاتية غير كافية، ضغطت إيران على روسيا على ما يبدو لكي تتدخل، الأمر الذي يزيد من التأكيد على التزامها بدعم حليفتها. وعلى العكس من ذلك، تحوّلت سوريا فعلياً من حليف لإيران و«حزب الله» إلى دولة تابعة مدينة بالفضل. يبقى أن نرى ما إذا ما كانت روسيا ستنضم إليهما بشكل متساوٍ أو كشريك أقدم. وعلى كل حال، هناك عدد من الآثار المحتملة طويلة المدى في المنطقة التي تترتب عن دور إيران في الحرب.
النزاع الطائفي المحتدم
شكّل تدخل طهران القوة الدافعة وراء زيادة التباعد الطائفي الذي شهده الشرق الأوسط في السنوات الأخيرة، فضلاً عن التعبئة للجهاد (السنية والشيعية) التي لم يسبق لها مثيل من أجل القتال في سوريا. وقد سمحت هذه التطورات إلى قيام طهران بحشد نسبة كبيرة من الشيعة إلى جانبها – وهم الذين يشكلون 20 في المائة من السكان في المنطقة – ولكن على حساب إقناع 75 في المائة من السكان العرب السنة بأن إيران تشكل تهديداً خطراً على هويتهم ومصالحهم. وسابقاً أدت مثل هذه المخاوف إلى توحيد دول متعارضة في المواقف، مثل تركيا والمملكة العربية السعودية وقطر، في إطار محور سني، وساعدت على تحفيز التدخل في اليمن بقيادة سعودية. إن نتائج هذه التطورات ستشكّل السياسة الإقليمية والديموغرافيا لعقود قادمة.
“محور المقاومة” الموسع
إن المشورة التي تقدمها إيران ووجودها على أرض المعركة في سوريا قد أدى بشكل ملحوظ إلى زيادة دوائر اتصالاتها، بما في ذلك قطاعات أوسع نطاقاً من «الجيش العربي السوري» و«قوات الدفاع الوطني». كما جنّدت طهران شبكة ميليشيات شيعية عابرة للحدود تشكّل بشكل فعال “الفيلق الأجنبي” لإيران الذي يحارب الشبكات السنية لتنظيمي «داعش » و«القاعدة». وستوفر هذه الشبكة قاعدة دعم خارجية للسياسات الإيرانية من لبنان إلى باكستان، كما أن الأصول التي رُفع التجميد عنها وفقاً للاتفاق النووي مع «مجموعة الخمسة زائد واحد»، قد تعزز من جهود طهران للتجنيد لهذه الشبكة والحفاظ عليها ودعمها.
تعزيز القوة العسكرية في شرق البحر المتوسط
بإمكان إيران استغلال موطئ قدمها في بلاد الشام في نهاية المطاف لإنشاء “فقاعة” تمنع الوصول على طول السواحل اللبنانية والسورية، وذلك باستخدام الفقاعة الروسية الأكثر قدرة حول طرطوس واللاذقية لحماية جهودها الخاصة. وقد يتوقف ذلك إلى حد ما، على قدرة إيران وسوريا على نقل الأسلحة المتطورة المضادة للسفن والمضادة للطائرات إلى «حزب الله»، رغم الجهود الإسرائيلية لاعتراض هذه العمليات المتعلقة بالنقل. كما وقد يعمل الطرفان على خلق مجمع أولي لاستطلاع الضربات في شرقي البحر الأبيض المتوسط لتهديد البنية التحتية الساحلية الإسرائيلية الهامة (محطات الطاقة والموانئ) والأصول البحرية (منصات الغاز الطبيعي)، وكذلك الشحن البحري للصواريخ الدفاعية لـ “حلف شمال لأطلسي” (“الناتو”).
قاعدة صواريخ خارج إيران؟
قد تسعى طهران إلى تعزيز نطاق قوتها الصاروخية وقذائفها وقوتها الضاربة عن طريق نشر بعض منها في سوريا (ولن يشكل ذلك سابقة من نوعها، إذ كانت كل من الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي قد نشرت صواريخاً في الخارج خلال الحرب الباردة). وتملك إيران مخزوناً كبيراً جداً من الصواريخ بعيدة المدى، وربما آلاف الصواريخ الباليستية القصيرة والمتوسطة المدى. وفي الوقت الحاضر، لا يمكن إلا لنصف هذه الصواريخ تقريباً (يُدّعى أن مداها يصل إلى حَدّ 2000 كلم) أن تصل إلى إسرائيل. إلا أن أياً من هذه القذائف (يُزعم أن نطاقات بعضها 500 كلم) لا تمتلك هذه القدرة. ولكن إذا نشرت إيران أعداداً كبيرة منها في سوريا، بإمكانها أن تطغى على الدفاعات الصاروخية الإسرائيلية، الأمر الذي يمنح طهران خياراً مستقلاً إذا حالت الظروف دون استخدام «حزب الله» لصواريخه الخاصة ضد إسرائيل في أي أزمة في المستقبل. إن نشر الصواريخ الباليستية متوسطة المدى في سوريا تجعل وسط أوروبا ضمن نطاق الوصول الإيراني أيضاً. وفي الوقت نفسه، قد تجدد طهران مخزونات الصواريخ المستنفذة لنظام الأسد لإعطائه قدرة انتقامية مستقلة.
جبهات جديدة ضد إسرائيل والأردن
كان «حزب الله» و«قوة القدس» التابعة لـ «الحرس الثوري الإسلامي» يحاولان حتى الآن ولبعض الوقت إقامة وجود لهما في الجزء الشمالي من هضبة الجولان السورية من أجل خلق جبهة جديدة لعمل عملائهما ضد إسرائيل. وتحقيقاً لهذه الغاية، شكلا ميليشيا من الدروز في بلدة الحاضر. وفي شباط/ فبراير، قام الضباط الإيرانيين على ما يبدو بتوجيه هجوم فاشل لاستعادة هضبة الجولان السورية من قوات الثوار باستخدام «الجيش العربي السوري» و«قوات الدفاع الوطني» و«حزب الله» وقوات الميليشيا الشيعية. ومن المؤكد أن هذه الجهود ستستمر. كما وقد تحاول إيران إقامة وجود لها على طول الحدود الأردنية لعدة أسباب من بينها: الضغط على عمّان، وزعزعة استقرار حليف رئيسي لإسرائيل والولايات المتحدة، والعمل على تحقيق الرغبة المُعلنة للمرشد الأعلى علي خامنئي والقائمة على تسليح الفلسطينيين في الضفة الغربية (وهو احتمال صعب).
إعادة التوازن للقوات الموالية للنظام؟
يبدو حتى الآن أن الدعم الروسي قد نشّط «الجيش العربي السوري»، وأن أطراف التحالف الموالي للنظام تعمل معاً بشكل متكامل. إن تجربة روسيا مع استخدام القوات التقليدية إلى جانب الميليشيات والجنود غير النظاميين في أوكرانيا قد جعلتها أكثر ميلاً للنهج المشترك الذي تفضله سوريا وإيران و«حزب الله». إلا أن الآثار طويلة الأجل للمساعدة الروسية غير واضحة بعد. والأسئلة التي تطرح نفسها هنا هي، هل ستقسّم موسكو وطهران المهام، الأمر الذي سيخلق فعلياً مناطق نفوذ بين قوات التحالف، مع مساعدة روسيا لـ «الجيش العربي السوري» وإيران لـ «قوات الدفاع الوطني» والميليشيات الشيعية الأجنبية؟ أم هل ستصر موسكو على لعب دور بارز وتسعى إلى إعادة التوازن إلى التحالف، وربما مساعدة «الجيش العربي السوري» بالظهور مرة أخرى كأقوى قوة عسكرية في البلاد (وهو خيار قد يفضله العديد من الضباط السوريين)؟ إذا كان الأمر كذلك، ما الأثر التي ستترتب عنه على السياسة الداخلية لنظام الأسد، وعلى علاقة النظام مع إيران، وعلى مصالح طهران في سوريا؟
القدرات العسكرية المعززة
حتى ولو كان تعاون إيران مع روسيا محدوداً، فإن التفاعل مع قوة عسكرية عظمى قد يسمح لها بتعلم الدروس الرئيسية واكتساب التكتيكات والتقنيات والإجراءات المتطورة. إلى جانب ذلك، زادت إيران من ميزانيتها الدفاعية بنسبة 32.5 في المائة هذا العام، كما أن خبرتها في سوريا يمكن أن تؤثر على طريقة إنفاقها للجزء المخصص لشراء الأسلحة، والذي قد ينمو في السنوات المقبلة في إطار رفع العقوبات النووية عنها. هذا ويمكن للتعاون في سوريا أن يحفز عمليات بيع الأسلحة الروسية المتطورة إلى طهران.
الأنشطة النووية الخارجية
في الوقت الذي يُحتمل أن يكون البرنامج النووي الإيراني مقيداً من الصفقة مع «مجموعة الخمسة زائد واحد»، فإن ضباط ساخطين من «الحرس الثوري» قد يمارسون الضغوط على النظام لمواصلة العمل في مواقع البحث والتطوير النووي في مواقع خارجية، بعيداً عن أعين المتطفلين من المفتشين الدوليين. وفي حين لا يُعرف عن مشاركة إيران وسوريا في تعاون نووي في الماضي، إلا أنهما قد تفعلان ذلك في المستقبل كما فعلتا في مجال الصواريخ. بيد، إن الطابع الملح لوضع المعركة ومدى تقلبه يجعلان هذا السيناريو غير قابل للتصديق في المستقبل المنظور، وهو الأمر فيما يتعلق بالمخاوف من أن يؤدي هذا التعاون إلى جلب انتباه روسيا (التي هي طرف في الاتفاق النووي) أو إسرائيل (التي هي في وضع أفضل للعمل ضد الأنشطة النووية في سوريا المجاورة من إيران البعيدة).
ردود الفعل المحلية؟
حتى الآن، لم يولّد تورط إيران في سوريا رد فعل شعبي في الداخل، وذلك لأن عملاء طهران هم الذين تحمّلوا الخسائر البشرية إلى حد كبير، في حين أن التكاليف المالية غير مرئية بالنسبة إلى المواطنين الإيرانيين العاديين. وإذا تردى النزاع وتصاعدت الخسائر الإيرانية، قد يصبح التدخل عبارة عن قضية سياسية مثيرة للجدل. ومع ذلك، فإن قرب التهديد الذي يشكله تنظيم «داعش» من المرجح أن يحد من هذه المعارضة.(معهد واشنطن)