ما يجري الآن في فلسطين يبحث عن اسمه، فالهبّة الشعبية التي تمتد على كامل مساحة أرض فلسطين، من القدس إلى الجليل، وتصنعها البطولة والتضحية والإبداع الشعبي والتوق إلى الحرية، هي نضال شعبي طويل النفس ومتحرر من الأوهام.
الانتفاضة الأولى أوحت باحتمالات الوصول إلى تسوية تنهي الاحتلال، ففرض عليها أن تلد اتفاق أوسلو الذي برهن أنه عملية مستحيلة، لأن أهداف طرفيه كانت متناقضة بشكل صارخ، الاسرائيليون يريدون حكما ذاتيا للفلسطينيين في إطارشرعنة الاحتلال عبر إعطائه شكلا مخففا، والقيادة الفلسطينية اعتقدت أن أوسلو كان وسيلتها إلى فرض أمر واقع استقلالي.
فشل الانتفاضة الأولى قاد إلى الانتفاضة الثانية، التي أطلق عليها اسمان: انتفاضة الأقصى وانتفاضة الاستقلال، لكن إسرائيل أثبتت انها لا تريد الانسحاب، وأن القدس ومستعمرات الضفة الغربية أكثر أهمية من أي سلام مع ضحيتها الفلسطينية. وبعد الاجتياح الشاروني للضفة وقتل ياسر عرفات، أعيد انتاج الوهم عبر قيادة محمود عباس التي اعتقدت ان الموافقة على طلبات الرباعية الدولية والخضوع للمطالب الأمنية الإسرائيلية يمكن ان يعيد انتاج وهم السلام. لكن هذا الخضوع الذي ترافق مع تفكيك المقاومة في الضفة، قاد إلى الانقسام من جهة، وإلى السماح للجنون الاستيطاني العنصري بالاستشراء، من جهة أخرى.
في الانتفاضتينن كان المطلب الفلسطيني واضحا وبسيطا، الوصول إلى تسوية عبر إقامة دولة فلسطينية على الأراضي التي احتلت عام 67، في إطار حل تفاوضي قائم على تقديم تنازلات لا حصر لها لإسرائيل.
لم يكن السلام التفاوضي سوى وهم. فالخطاب الإسرائيلي واضح، لقد انتهى الالتباس المراوغ والكاذب الذي هيمن على خطاب حزب «العمل» ليحلّ في مكانه خطاب الليكود واليمين القومي الديني، وهو خطاب لا يترك مجالا لأي التباس. فالهدف هو الاستيلاء الكامل على فلسطين.
يتأرجح الخطاب الإسرائيلي بين التمييز العنصري الصريح، وبين أحلام طرد الفلسطينيين. ما يقترحه هذا الخطاب هو استمرار الاحتلال إلى الأبد. وما على القيادات الفلسطينية سوى الخضوع الكامل، والتنسيق الأمني، وبعدها تستطيع أن تقول ما تشاء شرط أن لا تهدد أو تتحدى الزحف الكولونيالي. نظام الأبارتهيد الذي يبنيه الإسرائيليون لا يشمل الضفة وغزة فقط، بل يشمل فلسطينيي المناطق التي احتلت عام 1948 وصارت تدعى إسرائيل. أن تكون مواطنا عربيا (فلسطينيا) في إسرائيل لا يقدم لك أي حماية كفرد أو كجماعة، فأنت تحت المبضع نفسه الذي يهيمن على الفلسطينيين في الضفة وغزة.
الحكومة الإسرائيلية تلعب في ساحة إقليمية فارغة، لا وجود فيها لأي شكل من أشكال الردع العربي. العرب تلاشوا في هذه اللحظة المنقلبة، وبلادهم تواجه نكباتها مع الاستبداد والاجتياحات الخارجية. مصر خرساء بالعسكرتاريا، وسوريا والعراق في الكارثة، ولبنان معلّق ومؤجل في إطارنظام الفراغ السياسي الطائفي.
الهبّة الفلسطينية تدور وسط فراغ الخطاب السياسي الفلسطيني، مشروع الدولة عبر التفاوض، أي وهم أوسلو، انتهى. ومشروع حرب تحرير شعبية يحتاج إلى واقع فلسطيني وإقليمي غير متوفر، والكلام عن استبدال مشروع الدولتين بمشروع دولة ثنائية القومية، يحتاج إلى الكثير كي يتحول من رؤية ثقافية إلى أفق سياسي.
ماذا إذاً؟ لماذا ينتفض الفلسطينيات والفلسطينيون؟ وماذا يريدون؟
هل نحن أمام انتفاضة يأس؟
عبارة «»يأس»، ليست ملائمة، وأنا لا أعتقد أن شعباً يقاوم دفاعاً عن وجوده يمكن نعت نضاله باليائس.
نحن أمام انتفاضة غضب وصمود، هذه هي العبارة الملائمة، وهذا ما يميز النضال الفلسطيني اليوم عن الانتفاضتين السابقتين.
لا وجود اليوم لقيادة سياسية للشارع المنتفض. فالناس انتفضت بلا قيادات تقليدية، بل نستطيع القول ان انتفاضتها ليست ضد الاحتلال فقط، بل هي أيضاً ضد القيادة الحالية بكل تلاوينها ومكوناتها.
انتفض الناس من أجل تأكيد صمودهم، ومنع الاحتلال من كسر إرادة الحياة فيهم.
هذه هي المسألة.
الذين يدعون إلى انتفاضة ثالثة، على غرار الانتفاضتين السابقتين، ينسون أن الظروف تغيرت.
في الانتفاضتين كان الهدف هو الوصول إلى دولة منقوصة السيادة،عبر الضغط والمفاوضات.
هذا الهدف لم يعد ممكناً الآن، وفقد معناه، عدا عن أن إسرائيل لا تجد نفسها مضطرة إلى تقديم أي شيء، حتى ولو كان شكلياً.
الصمود في الأرض، والدفاع عنها، وردع اعتداءات المستوطنين الوحشية، ليس هدفا صغيراً، بل يجب أن تكون انتفاضة الصمود مدخلاً لإعادة انتاج الخطاب الوطني الفلسطيني، وتحريره من تكلّس السلطة والفساد والوهن.
الغضب والصمود هما اليوم الشكل الوحيد لبناء عمل نضالي متواصل رغم العزلة والتفكك العربيين، ورغم الانقسام الفلسطيني وضده.
الصمود الفاعل هو عمل جماهيري متواصل، يتخذ أشكالا متعددة، وسوف يكون مدخلا للنضال في مواقع مختلفة، من دون أن يعني بالضرورة عملاً شاملاً وموحداً.
الوحدة الشعبية تبنى من تحت، أي من قلب قواعد الاشتباك الجديدة.
الزمن الفلسطيني بدأ كزمن اشتباك دفــــاعي قبل عام 1948 وبعده، وهو اليــــوم كذلك، ولم يتوقف الاشــــتباك ويأخــذ هدنة انحدارية إلا في زمن الوهم الأوسلوي، الذي قتلته إسرائيل.
انتفاضة الصمود، التي ترفدها هبات غضب متواصلة، هي المدخل إلى إعادة بناء فكرة فلسطين، بصفتها فكرة أخلاقية ومشروع عدالة.