هذه ليست مجرد مبارزة بين فلاديمير بوتين وأبو بكر البغدادي. ليست مجرد معركة لضمان موقع روسيا في سورية. ليست مجرد محاولة للاحتفاظ بوجود عسكري على شاطئ المتوسط. ليست مجرد عملية تتعلق بحسابات النفط والغاز والأنابيب والممرات. إنها أكبر. إنها أخطر.
هل ترانا نبالغ إذا قلنا إن التدخل العسكري الروسي في سورية بذيوله الإقليمية والدولية أخطر من هجمات 11 أيلول (سبتمبر). وإن إطلالة بوتين الجديدة عبر الصواريخ التي أطلقتها البوارج الروسية من بحر قزوين لا تقل خطورة عن إطلالة البغدادي من الموصل. وإن ما ألحقته صواريخ البوارج بصورة أميركا في المنطقة والعالم لا يقل عما ألحقته طائرات بن لادن بالبرجين. ففي الهجومين كانت هيبة أميركا هي الهدف الأول حتى ولو تغطى الهجوم الروسي بلافتات أخرى.
من المبكر المسارعة إلى عقد المقارنات بين قرار جورج بوش الذهاب إلى الحرب رداً على جرح نيويورك وقرار بوتين الذهاب إلى الحرب دفاعاً عن مصالح بلاده وصورتها وسعيه إلى تعزيز موقعها. لم نصل بعد إلى تلك المرحلة. وأغلب الظن أن بوتين لا يريد تكرار خطأ بريجنيف في أفغانستان وخطأ بوش في العراق. لكن التجارب تقول إن أرض المعركة قد تفاجئ أبرع الجنرالات وما دبجوه على الخرائط في غرف العمليات.
حين أعلن البغدادي «دولة الخلافة» لم يتوقع أن تنهمر عليه باقات الورود والتهاني وأن يتسابق السفراء لتقديم أوراق اعتمادهم. كان يعرف أن دولته انتحارية. وأن إعلانها على أجزاء من خريطتين يشكل أوسع عملية انتحارية في التاريخ المعاصر. يرجح أن البغدادي حلم بما تعذر على أسامة تحقيقه وهو استدراج الآلة العسكرية الأميركية إلى مكان يتعذر فيه الانتصار واستنزافها ثم إرغامها على المغادرة مثخنة كما حل بـ «الجيش الأحمر» السوفياتي.
اعتبر بوتين المحنة السورية فرصة كبرى لاستنزاف هيبة أميركا. شهر سيف الفيتو في مجلس الأمن. لن يسمح بتكرار ما يعتبره «الخديعة الليبية». أصيب الرئيس الأميركي المتردد بهاجس الابتعاد عن النار السورية. حين يطالب رئيس القوة العظمى الوحيدة رئيساً أن يرحل ولا يملك إرادة إرغامه وحين يضع «خطاً أحمر» ويتجاوزه المستهدف، يخسر صاحب الإنذار سريعاً معركة الهيبة والصورة. خدعه القيصر في محطة مفصلية. حين اكتفى أوباما بنزع السلاح الكيماوي من يد النظام السوري من دون اشتراط أن يتضمن الحل إطلاق مرحلة انتقالية سلّم عملياً ببقاء النظام. وحين يوافق أوباما على معاملة إيران وكأنها دولة كبرى في مفاوضات الاتفاق النووي، لماذا لا تتقدم روسيا للثأر من الإذلال الأميركي الطويل لموقعها وأسلحتها.
بدا الرئيس الأميركي المتردد مربكاً لحلفائه وحليفاً لأعدائه. قرأ بوتين المشهدين الدولي والإقليمي وسدد ضربته. لا يريد أوباما إنهاء إقامته في البيت الأبيض مستقبلاً جثث الجنود العائدة من الشرق الأوسط. أربع سنوات من الحرب في سورية أظهرت حدود الدور الإيراني وطابعه غير الحاسم. تركيا انزلقت إلى حرب على أراضيها والإرهاب نقل النار إلى الدار. وسلوك تركيا أقل بكثير من تهديدات سلطانها. السعودية منشغلة بحربها في اليمن وروسيا بادرتها بسلوك إيجابي في مجلس الأمن. أما أوروبا فمرتبكة بأمواج اللاجئين المرشحة للازدياد. سدد بوتين ضربته.
المسألة أكبر من إنهاء البغدادي ودولته. وأكبر من تحديد مصير الرئيس بشار الأسد ونظامه. وأكبر من تحويل الهلال الإيراني هلالاً روسياً – إيرانياً. إنها عملية انقلاب واسع على التوازنات التي قامت على ركام الامبراطورية السوفياتية. إنها عملية ثأر من أميركا التي انتزعت لقب القوة العظمى الوحيدة من دون أن تطلق رصاصة. وثأر من حلف الأطلسي الذي حرك بيادقه في اتجاه حدود الاتحاد الروسي. ثأر من سياسة التأديب والعقوبات والثورات الملونة والمجتمع المدني.
ليست مجرد معركة في سورية. وليست مجرد معركة على سورية. إنها معركة تسديد حسابات تؤثر نتائجها على ميزان القوى الدولي وملامح الشرق الأوسط ودوله وخرائطه وأقلياته. يستطيع بوتين تعديل ميزان القوى على الأرض لمصلحة النظام. الحسم الكامل متعذر وباهظ. يقدم سريعاً تصوراً لحل شبه مقنع أو يغرق تدخله في «سوريستان». لم يترك لخصومه خيارات كثيرة. سيتدفق السلاح والمقاتلون. وسيتردد صدى المعارك لدى مسلمي الاتحاد الروسي وجواره. سورية فرصة الثأر قد تتحول سريعاً سورية المستنقع التي تهدد باستنزاف القيصر وبلاده.
الشرق الأوسط في أحلك أيامه. دول خائفة. وخرائط قلقة. أكثرية متوجسة. وأقليات مذعورة. دوله الرئيسية تتعرض لاستنزاف غير مسبوق يعني سلامتها ودورها واستقرارها. تحارب خارج حدودها أو داخلها.
وسط بحيرات الدم أطل القيصر وسدد ضربته. بين المغامر والمقامر خيط رفيع. يفرض سريعاً حلاً شبه معقول في سورية أو يغرق مع البغدادي في «سوريستان».