عروبة الإخباري- كانت الإدارة الأميركية تراهن على أن يحوِّل «خصماها» روسيا وإيران أقوال باراك أوباما إلى أفعال بـ «تنحي» الرئيس بشار الأسد وبدء «مرحلة انتقالية» تؤدي إلى «سورية ديموقراطية علمانية متعددة». الآن، يراهن مسؤولون أميركيون علناً على «فشل» الرئيس فلاديمير بوتين في بلوغ هدفه وأن يغرق في «المستنقع السوري». لكن ماذا لو أنجز بوتين أهدافه ونجح حيث فشل أوباما؟ ماذا لو أصبح بوتين «حامي الأقليات وبقاء المؤسسات وضامن الحل ومستعيد وحدة البلاد»؟ ماذا لو وسع من الساحل السوري نفوذه في الشرق الأوسط؟ وماذا لو استخدم «الورقة السورية» في مبارزته مع الدول الأوروبية وأميركا إزاء الأزمة الأوكرانية والعقوبات والعزلة؟
كان بوتين استعمل جميع أدواته السياسية والديبلوماسية وحق النقض (فيتو) لمنع تكرار «تجربتَي» ليبيا والعراق. أما الآن، فلجأ إلى الأداة العسكرية وحول ميناء بحرياً صغيراً إلى قاعدة عسكرية خارج إدارة الجانب السوري. بنى حصناً في اللاذقية. أقام غرفة للعمليات العسكرية. شبكة اتصالاته بلا شريك سوري أو إقليمي. قبض على مفاصل النظام. صار وصياً على الحاضنة الاجتماعية للنظام. عشرات من طائراته المتطورة، هيمنت على سماء سورية أو معظمها. أربك خصومه وحلفاءه.
الآن، تبدو سورية والإقليم أمام احتمالين:
الأول، النظام أو «داعش»: أن تواصل الطائرات الروسية ضرب جميع الفصائل المعارضة. لا فرق بين «أحرار الشام» و «جيش الإسلام» و «جبهة النصرة» و «داعش». لا فرق بين تكتل «جيش الفتح» و «الجبهة الشامية». لا فرق بين فصائل إسلامية و «جيش حر». كلهم سواسية في الاستهداف. هناك تبنٍّ لرأي النظام في أن «كل من رفع سلاح في وجه الدولة، هو إرهابي»…. إلا من «قبل تسوية للعودة إلى حضن الوطن». الضغط على النظام للاستغناء عن «البراميل المتفجرة» العشوائية لمصلحة قذائف الطائرات الروسية الدقيقة. أن يعتمد الروس سياسة «الأرض المحروقة». نموذج «غروزني». تدمير المناطق قبل دخول القوات النظامية. أن تشكل المقاتلات والقاذفات الروسية غطاء لتقدم الجيش السوري والميليشيات الإيرانية و «حزب الله».
أن يوفر الروسي غطاء جوياً لـ «الهلال الشيعي» في سورية وجوارها. التحكُّم في إقليم النظام من دمشق إلى الساحل والتحالف مع جميع من يحمل السلاح تحت الأمرة الروسية. وترك باقي البلاد إلى الفوضى و «الدوعشة». مزيج بين شراء نظرية مسؤولين سوريين ونموذج «الجزأرة» (تجربة الجزائر) واستعارة أسلوب إيران في الرهان على الزمن. سحق المنطقة الرمادية بين النظام و «داعش». صيانة إقليم النظام «العلماني» وترك باقي البلاد إلى الفوضى.
هذا ما قاله رئيس الوزراء ديمتري ميدفيدف من أن العمل العسكري في سورية «استباقي» للدفاع عن «مصالح الشعب الروسي». قتل آلاف المتشدّدين من الشيشان والدول الإسلامية «السوفياتية» ومن الصين، في سورية. وعدم السماح لهم بالعودة إلى بلادهم. أن يدافع عن «حليفه» الأسد. أن يُري واشنطن وغيرها الفرق بين «حلفاء الكرملين» و «حلفاء البيت الأبيض». لا غطاء أميركياً لمن يسعى إلى الديموقراطية. لا قيمة للتظاهرات والنشطاء. الجنرال في القصر. نموذج جديد للعالم.
أيضاً، احتقار الحل السياسي. شراء الرأي الرسمي السوري: الأولوية لمحاربة الإرهاب. لا بد من وقف تدريب وتمويل وتسليح الإرهابيين أولاً. أما الحل المعروض فيعني تجميل النظام الحالي ببعض المعارضين «الصحيين». وإجراء انتخابات تجميلية. أن يكون الهدف «إعادة إنتاج النظام» و «إعادة الشرعية للنظام مهما كلف الثمن». استخدام وسائل عسكرية وسياسية وديبلوماسية، على الأرض السورية والإقليم وفي الأمم المتحدة، لـ «الإبقاء على النظام بكل رموزه وأركانه».
لكن اعتبار جميع مقاتلي المعارضة العلمانية والإسلامية «دواعش»، قد يرمي بكثيرين في حضن أبو بكر البغدادي. سيصبح «داعش» ناطقاً باسم السنة. سيخوض عناصره «حرباً مقدسة» مقابل «الحرب المقدسة» التي باركتها الكنيسة الروسية. الصراع السوري الذي كان في بعض جوانبه سنّياً – شيعيّاً يغدو إسلامياً – مسيحياً. أوباما يرفض الانجرار إلى «حرب بالوكالة»، لكن سيجد صعوبة في سنته الأخيرة أمام رغبة دول إقليمية بدعم المعارضين. ستصبح سورية مسرحاً لصراع دولي بعدما كانت منصة لصراع إقليمي. تكرار نموذج أفغانستان أمر مستبعد. تغير العالم وروسيا والمنطقة. ولا قوات برية روسية في سورية. طالما أن حليف بوتين، رئيس الشيشان، أبدى استعداداً لإرسال آلاف المقاتلين. لكن طبيعة المهمة الانزلاقية الروسية، قد تؤدي إلى مطافات لم تكن في الحسبان. بالنسبة إلى كثير من السوريين، ستصبح بلادهم محتلة و «مقاومة الاحتلال واجب». أن يتعاضد مقاتلون في «جبهة للمقاومة». «حرب تحرير وحرب توحيد». سيصبح صعباً على بعض الموالين الدفاع عن «استعمار». في كتب التاريخ، الدفاع عن «البرميل الوطني» أصعب من الدفاع عن «الميغ الروسية». ستصبح الفجوة أضيق بين سوريين.
احد الصحافيين الأميركيين المقربين من البيت الأبيض، نصح أن تكون سياسة أوباما ترك بوتين «يغرق في المستنقع السوري». ومسؤول أميركي قال إن توصية رُفعت لأوباما قبل سنوات بترك «حزب الله» و «داعش» يتحاربان في سورية. الطرفان عدوّان وينهكان بعضهما بعضاً. ينصح أوباما نفسه حالياً، بأن يترك عدويه يتحاربان. مبارزة بوتين والبغدادي.
الثاني، نظام جديد ضد التنظيم: بعدما قدم بوتين الحماية والطمأنة للعلويين والأقليات. تشعر الحاضنة الاجتماعية للنظام بأن بوتين «حامي الأقليات إلى الأبد». حصن عسكري على الأرض. طائرات في كل السماء. بعد «ضربات جراحية» على تخوم الريف العلوي. غارات على «جيش الفتح» في أرياف حماة وإدلب وحمص. استعادة بعض النقاط الاستراتيجية. بعدما يعرف قادة الميليشيات و «قوات الدفاع الوطني» المحسوبة على إيران، اسم الآمر الميداني للعمليات، بعدما يقوى «التيار الروسي» على «التيار الإيراني» في النظام، بعدما يخف اعتماد النظام على إيران، بعدما يتحول الصراع إلى «سياسي» بدل سني- علوي، بعدما يحقق الروسي انتصارات رمزية ضد «داعش»، أن يظهّر أطياف اللون بين الفصائل المسلحة، أن يعرف الفرق بين «أحرار الشام» و «النصرة» و «داعش»، بين الفصائل الإسلامية و «الجيش الحر».
أن يعرف بوتين أن سورية التي عرفها من برلين عندما كان ضابطاً في الاستخبارات السوفياتية غير التي يراها من الكرملين. لا بد من «عقد اجتماعي جديد». لا بد من خيّاط ماهر لحياكة القماشة السورية. كثير من الصبر والحزم لإعادة الأطراف إلى المركز. أن يسعى إلى تطبيق «المبادئ» المتفق عليها مع الأميركي ودول إقليمية. «سورية دولة علمانية، موحدة، وبقاء مؤسستي الجيش والأمن وإعادة إصلاحهما وهيكلتهما». أن يسعى فعلاً إلى تطبيق مبدأه «بقاء الدولة». بقاء المؤسسات. رفض التقسيم. ألا تكون «سورية المفيدة» هدفه النهائي بل «سورية الجديدة». أن تكون الغارات الروسية على تخوم معقل النظام، تكتيكية وليست نهائية لـرسم حدود الإقليم.
بعدما شعرت حاضنة النظام والطائفة بـ «حماية روسية»، أن تكون فعلاً مستعدة للذهاب إلى التسوية، إلى الشراكة. لا خوف من تقاسم السلطة. المعارضة لا تعني القبر. أن يكون فرض بوتين الأمر الواقع مردّه أسباب تفاوضية وليست نهائية. بعد وقف انهيار النظام خلال ستة اشهر كما تبلّغ من مسؤولين غربيين، وقف تدحرج فصائل إسلامية إلى تخوم الريف العلوي، أن يذهب بالنظام إلى مفاوضات «جنيف- ٣» لتطبيق بيان «جنيف- ١». أي تشكيل جسم انتقالي من النظام والمعارضة للوصول إلى «سورية الجديدة» على أساس انتقال «مضبوط بجداول زمنية واضحة». قناعة الجانب الروسي سابقاً، أن «الهيئة الانتقالية لا تشمل الأسد ولا الجيش والأمن»، لكن أن تذهب موسكو إلى تسوية تتضمن المجالس الانتقالية الثلاثة المشكّلة من ممثلي النظام والمعارضة الذي يمونون على الأرض: عسكري مشترك، حكومة انتقالية، مؤتمر وطني. نظام جديد قادر على استعادة الشرعية وعلاقاته الدولية والدخول في شراكة عسكرية مع فصائل في «الجيش الحر» و «وحدات حماية الشعب الكردي» لمواجهة «داعش». دول غربية «سلفت» بوتين بحديثها عن بقاء الأسد في المرحلة الانتقالية. وألمانيا سلفت بضرورة «الشراكة» مع النظام في الحل.
كان بوتين «سلف» الغرب والسوريين عرضاً: شراكة بين النظام والمعارضة «الصحية»، انتخابات برلمانية مبكرة، مراجعة الدستور، انتخابات رئاسية مبكرة.
الخيارات السورية باتت واقعية بالطموحات وبالسيادة. قد يقبل كثيرون سورية في دائرة النفوذ الروسي طالما أن البديل الآخر كان إيرانياً. روسيا وليس إيران ستملأ فراغ الانسحاب الأميركي. قد يقبل كثيرون مسيرة استعادة سورية موحدة بعدما كان المطروح الانحدار إلى التقسيم. اللامركزية لن تكون مخيفة. الإدارات المحلية، لن تكون نهائية. تسلم الزعامات المحلية القيادة، لا تعني القطيعة مع دمشق- المركز. لن تبخل دول عدة في المساهمة في إعادة الإعمار في سورية. بعضها سيرى أن بوتين قام بمهمة محاربة المتشددين نيابة عنهم وعن أنظمتهم.
وقتها، ستكون ذات معنى الجملة التي قالها نائب وزير الخارجية ميخائيل بوغدانوف للأسد بداية العام: التقديرات أن عملية إعادة الإعمار تتطلب ٣٥٠ بليون دولار أميركي. وروسيا وإيران لا تستطيعان تقديم هذا المبلغ. يجب أن تكون أي تسوية مقبولة خليجياً لدفع فاتورة إعمار البلاد. ستكون زيارات قادة الإمارات ومصر والأردن قبل بدء العمل العسكري الروسي، ضمن السياق. سيكون بوتين استوحى جرأته العسكرية مما سمع: الأولوية لمحاربة النفوذ الإيراني و «داعش». المشكلة مع النظام في بعض شخصياته وتسليمهم البلاد إلى إيران، الاستعداد لعلاقة استراتيجية مع روسيا لأن أميركا – أوباما ليست حليفاً يعتمد عليه. ستكون التسوية مقبولة في كثير من دول المنطقة وكثير من الدول العربية. سيضعف موقف مفسدي ومخربي الاتفاقات. مطبات وتحديات لن تفجر المسيرة.
أيضاً، سيحتفل قادة أوروبيون بـ «المنقذ» بوتين في تخفيف تدفق اللاجئين إليهم. سيتسلل بوتين من الشقوق بين أوروبا وأميركا في ما يتعلق بأزمة أوكرانيا. سيكسب سورية في ملف الصواريخ الاستراتيجية الرادعة لـ «حلف شمال الأطلسي». ستحتفل دول الجوار السوري بوقف الفيضان البشري على حدودها وإمكانية عودة عكس التيار.
إذا سارع بوتين في تقديم رؤيته السياسية، سيحقق ما عجز عنه أوباما. سيحقق قيصر الكرملين بخططه ما عجز سيد البيت الأبيض عن تحقيقه بخطاباته. ستكون ممكنة ترجمة رغبة أوباما «في العمل» مع موسكو وطهران للوصول إلى «انتقال سياسي». ستكون ذات معنى «المبادئ» التي أعلن وزيرا الخارجية الأميركي جون كيري والروسي سيرغي لافروف الاتفاق عليها في نيويورك قبل أيام: «سورية دولة علمانية تعددية موحدة».
وقتها سيكون بوتين حقق بـ «أسلوبه» ما اتفق عليه مع أوباما كـ «مبادئ». قدم له هدية في سنته الأخيرة كما ساعده في الخروج من مأزق «الملف الكيماوي» في نهاية ٢٠١٣. سيصاب بالخيبة مَنْ راهن على فشل بوتين. سيفاجئ من توقع أن لا عباءة سياسية لخياره العسكري. سيرى هؤلاء القيصر سابحاً في سورية والإقليم. ليس غارقاً في المستنقع، بل وارثاً النفوذ الأميركي. سيركب آخرون قطار التسوية الذي وضعه بوتين على السكة. سيركب آلاف السوريين طائرات العودة إلى البلاد. قد يركب أفراد في النظام طائرات الخروج دافعين ثمن إدخال «الدب الروسي إلى كرمهم». سيكون أصعب على بعض المسؤولين قول «لا». سيقبل لاعبون بـ «الوصاية الروسية» على سورية كأمر واقع.(الحياة)