تدعو له بالتوفيق، فيما تطلب من الحاضرات عدم البكاء والعويل. تودعه قائلة: “دير بالك على حالك يمّا.. سلّم على اللي قدامك.. كون زلمه يمّا، ولا يهمك”. تكرر الأم: “خليك زلمه يا أحمد”.
تطلب أن تحضنه كوداع أخير، فهي لا تدري كم سيطول الفراق، وكيف سينام صغيرها؛ ليس خارج البيت فحسب، وليس ضيفا عند محب، بل في سجن المحتل الذي اغتصب الأرض والدار.
لا أدري أي جسارة وقوة تملكها أمٌ لتقول هذه العبارات الشجاعة وهي تودع وحيدها لحظة اعتقاله من جنود الاحتلال! وكم أخفت مشاعرها وهي لا تدري أي مصير ينتظر فلذة كبدها! لكن لها أن تتخيل.
فربما لا يعود أبداً! وربما يبقى أسيرا لسنوات طوال! وربما حين يعود يكون محمّلا بعاهات دائمة! فهي أخبر بما يفعله المحتل بالشباب الفلسطيني الذي طالما قدم حياته وقفاً لفلسطين، فكان كبيرا الثمنُ الذي دفعه من حياته وعمره، لتبقى فلسطين قضية حية لا تموت.
ليس ثمة أرقى وأسمى من أمهات ينذرن أولادهن للوطن؛ هؤلاء هن سيدات العالم، سيدات فلسطين، فما قدمنه ويقدمنه هو الثمن الأغلى على وجه هذه البسيطة كلها.
في الفيديو المصور تحضر الكلمات الشجاعة لأم أحمد، إلا أنها شجاعة تظل تخفي خلفها وجعا وألما يعتصران روح الأم قبل قلبها. لكنها تعلم أن قدرها وقدر ولدها وغيرهما، هو التضحية بالدم والروح حتى تحيا فلسطين.
في شوارع فلسطين أيضا صبايا ملثّمات تركن الدلال في خزانة الملابس، وارتدين ثوب المقاومة، ليقفن مع إخوتهن في الميدان لمواجهة المحتل. على الكتف حقيبة يد نسائية تؤكد حب الحياة، وباليد الأخرى حجارة ترميها متصدية بها لبندقية، لأن الحياة تكون بالحرية والكرامة فقط. وفتاة أخرى تصنع سلاحها اليدوي من خشبة معقوفة ومطاط، مصرة على النضال بما تيسر في وجه المغتصب.
الصبايا أرهبن الجنود ووقفن بشجاعة في وجه المحتل، وزرعن الخوف في قلبه؛ ليس بالبندقية. فالخوف ليس من حجر أو سلاح بدائي، لكن من امرأة شجاعة قوية، تؤمن أن المواجهة مصير، وأن التضحيات واجب، حتى إن كانت تضحية بولدها الوحيد الذي هو أغلى عليها من نفسها.
صبايا أشجع من أمة نسيت فلسطين أو تكاد، وأقوى من رجال منشغلين بكل شيء إلا فلسطين. لهنّ نقول: بوركت نساء وصبايا الأرض بشجاعتكن التي تجعل المرأة تفخر أنها أنثى.
هناك في فلسطين شعب تعب من الظلم والقهر، تتقدمه سيدات آمنّ أن من حق الوطن عليهن أن يحملن أرواحهن على أكفهن، ليقلن للعالم أجمع: نحن نساء وصبايا وبنات فلسطين، نحن سيدات الأرض، لأننا نذود عن الوطن بالروح والولد.
في فلسطين، آلاف من أمهات الشهداء، وصبايا فقدن الأخ والأب. لكن الموت لم ولن يردعهنّ، والمحتل لم ولن يرهبهن وينتزع أرواحهن المقاومة. ولكل هذا هن يستحققن لقب سيدات الأرض، فبعد كل هذه التضحيات، ما من شيء يبقى ذو قيمة.
المعيب ونحن نرى كل هذا الفخر، أن يخرج علينا بعض ذكور ليذكرونا بأن المرأة عورة، وأن ملابس المقاومات غير محتشمة، وأن مكانهن المطبخ!
لكل هؤلاء أقول: إنّ أي تغيير في واقعنا العربي المؤلم؛ سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، لن يحدث طالما المرأة وصوتها عورة، وطالما ثمة عقل ذكوري يظنّ أن نزول المرأة للميدان يقلل من شأنها ويخدش الحياء العام، وأن خروجها للعمل انتقاص من حظه في الحصول على فرصة.
المرأة يا سادة هي عنوان التغيير.(الغد)