عروبة الإخباري- في مواجهة الضجة الكبيرة التي رافقت تدخلها العسكري الأخير في سوريا، عادت موسكو لاستخدام خطاب “حماية الدولة” في مواجهة الإرهاب والمجموعات الجهادية المدعومة من الغرب، فضلاً عن حماية الأقليات الدينية.
في خطابة الأخير في الجمعية العامة للأمم المتحدة، دافع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عن دور بلاده العسكري في سوريا بتصويره على أنه التزام بمحاربة ما يعرف بتنظيم “داعش” الذي “جرى اختلاقه منذ البداية كأداة ضد الأنظمة العلمانية غير المرغوب فيها” وهو اليوم “يسعى للهيمنة على العالم الإسلامي”.
بعد يومين على خطاب بوتين، نفذت روسيا أولى ضرباتها الجوية في سوريا، وقد أشادت الكنيسة الأرثوذكسية الروسية بها واصفا المهمة العسكرية بأنها “معركة مقدسة”، كما أشارت إلى معاناة المسيحيين في المنطقة.
وعلى نفس المنوال، أكدت موسكو عدم تمسكها بالرئيس السوري بشار الأسد، وبررت تحركاتها العسكرية الجديدة بمحاولة “تفادي كارثة شاملة في سوريا”.
لكن لموسكو مصلحة راسخة في إبقاء بشار الأسد في السلطة و في تأسيس تواجد عسكري أولي يؤمن لها موطئ قدم في سوريا لإنقاذ النظام عندما، أو في حال تعرض إلى خطر الانهيار.
بالإضافة إلى ما سبق، يبدو أن للتواجد العسكري الروسي في سوريا أهدافاً طويلة الأمد مرتبطة بانتهاج موسكو لعقيدة عسكرية توسعية.
إذ تأتي الضربات الجوية الجديدة بعد التعديلات التي أدخلتها موسكو على عقيدتها العسكرية “المتحفظة” التي سادت بعد انهيار الاتحاد السوفييتي والذي كان من تداعياته تقليص ميزانية الدفاع الروسية من 30 % من الناتج المحلي الإجمالي إلى حدود 4.5%.
وكان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قد أطلق إصلاحات واسعة النطاق لتعزيز قدرات الجيش الروسي من ضمنها مشروع تحديث الجيش والأسلحة وزيادة العتاد الحربي والذي تبلغ تكلفته نحو 283 مليار دولار.
كما عدلت روسيا قبل نحو شهرين فقط العقيدة العسكرية لسلاح البحرية، وباتت تضع مواجهة تمدّد الحلف الأطلسي كأولوية، وهو ما يدفعها إلى الحفاظ على وجود دائم لأساطيلها في المحيط الأطلسي والبحر المتوسط حيث تشكل مدنتني طرطوس واللاذقية السوريتين المنفذ الوحيد لها.
بهذا المعنى يبدو التوسع العسكري في سوريا في سياق توسع اكبر لروسيا يشمل تأسيس قواعد عسكرية في عدة بلدان منها فيتنام وكوبا وفنزويلا ونيكاراغوا وجزر سيشيل وسنغافورا و بيلاروسيا.
لا تخفي روسيا نزعتها لتحدي ما تصفه بـ”الهيمنة الغربية على العالم”، وكان آخرها تحدي الغرب في كل من سوريا وأوكرانيا. هكذا، وفي جانب منه، يبدو التحرك العسكري الروسي الجديد في سوريا كرد فعل على استبعادها من المشاركة في التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة لقتال تنظيم الدولة الإسلامية في سوريا والعراق.
الأمر الذي دفعها للمشاركة في الحرب على الإرهاب بتأسيس تحالفها الخاص في المنطقة التي يحكمها الأسد من سوريا مقابل تحالف “غير شرعي بني على أسس خاطئة” بسبب استبعاده الأسد.
وقد باشرت روسيا إرسال تعزيزات عسكرية إلى سوريا بعد أن فشل اقتراحها الأخير بتشكيل “تحالف إقليمي لمواجهة الإرهاب” يجمع دول الجوار، وخصوصاً تركيا و السعودية وقطر، في تحالف واحد مع إيران والنظام السوري لمواجهة تنظيم داعش.
وبسرعة، ذهبت موسكو خطوة أبعد وذلك ببدء حملة قصف جوي استهدفت بشكل خاص مجموعات المعارضة السورية “المعتدلة”، بما في ذلك الجيش السوري الحر المدعوم من الولايات المتحدة الأمريكية، على الرغم من إدعاءات روسيا بأن الغارات هي ضد تنظيم “داعش”.
يمكن أن يساعد التواجد العسكري الروسي في سوريا على تمتين العلاقات الاقتصادية المتواضعة بين الجانبين، وعلى تأسيس علاقات اقتصادية طويلة الأمد.
رغم أن دمشق احتفظت دوماً بعلاقات سياسية جيدة مع موسكو، لكن علاقاتهما الاقتصادية اكتسبت أهمية اكبر بعد اندلاع الاحتجاجات في العام 2011.
وبحسب بيانات رسمية سورية، بلغ حجم التبادل التجاري بين روسيا وسوريا في العام 2010 نحو مليار دولار أمريكي، لكنه ارتفع بعد اندلاع الاحتجاجات إلى نحو 2 مليار دولار.
وفي حين تقف الحرب الشرسة الدائرة في سوريا عائقاً أمام تنشيط التبادل التجاري بين البلدين، تبدو الرغبة واضحة لديهما في المضي قدماً بعلاقات تجارية أقوى. وعلى سبيل المثال، أعلن الجانبين بشكل رسمي في شهر نيسان الماضي على خطط لتبادل المنتجات الزراعية عبر مرفأي اللاذقية وطرطوس.
في شهر تموز/ يوليو، أعلن الاتحاد الروسي لصناعيي الغاز والنفط أنه وبعد أن “يصبح الوضع مستقر” في سوريا، سوف يسعى الاتحاد لاستثمار ما لا يقل عن 1.6 مليار دولار في عقود الطاقة. وكانت الحكومة السورية قد وقعت في العام 2013 اتفاقاً مع شركة “سيوزنفتاغاز” (Soyuzneftegaz) الروسية من اجل الحفر والتنقيب عن النفط والغاز في منطقة قبالة الساحل السوري وفق عقد يستمر لمدة 25 عاماً. ويبدو أن عقود الطاقة تحظى بمتابعة جادة من جانب روسيا ويؤكد على ذلك زيارة حديثة لوفد روسي من الخبراء في مجالي النفط والكهرباء العاصمة دمشق في منتصف الشهر الجاري (أيلول/ سبتمبر). وبدوره وعد وزير النفط السوري سليمان العباس في تصريح أثناء تلك الزيارة بأن “يكون للشركات الروسية دور كبير في فرص الاستثمار المتاحة مستقبلاً”.
تدرك روسيا جيداً، وهي الدولة التي تعتمد بدرجة كبيرة على تصدير الغاز الطبيعي، أهمية موقع سوريا كونها مكان محتمل لمرور شبكة أنابيب النفط والغاز إلى تركيا ومن ثم إلى أوروبا وهو ما يهدد هيمنتها على تصدير الغاز للقارة الأوروبية (تتجاوز حصة الغاز الروسي من إجمالي الواردات الأوروبية 64 %). هكذا، تندفع روسيا للاستثمار في قطاع الطاقة السوري لأنها تفضل أن يكون لها حصة في تطوير هذا القطاع بدلاً من أن تتنافس معه في المستقبل.
ربما تأمل موسكو بأن يزيد تواجدها العسكري ومشاريعها الاقتصادية في سوريا من تبعية النظام السوري لها وذلك بما يجعلها قادرة على التأثير بقراراته السياسية والعسكرية بصورة أكبر.
هنالك تجارب عديدة تشير إلى أن نظام الأسد، وان كان ينسق تحركاته العسكرية والدبلوماسية مع روسيا بشكل كبير، لكنه لم يخضع للرؤية الروسية بصورة تامة، ورفض لها العديد من المطالب السياسية. لقد قوض النظام السوري جهود موسكو في تشكيل حكومة وحدة وطنية في سوريا وذلك بإظهار عدم رغبته في ذلك وبمواصلته اضطهاد كل المعارضة السورية، وحتى المعارضة الداخلية التي دعت للحوار مع الحكومة السورية والتي تحتفظ بعلاقات وثيقة مع روسيا. في شهر نيسان/ ابريل، أفشل النظام السوري مؤتمري “موسكو 1” و “موسكو 2” الذي عقدته روسيا بمشاركة “المعارضة البناءة” (المعارضة المتواجدة في سوريا والتي لا تطالب برحيل الأسد)، كما منع النظام السوري سفر بعض المعارضين ممن دعتهم موسكو للمشاركة في المؤتمر.
قدرة الأسد على تعطيل تلك المبادرات ربما تؤشر إلى ضعف النفوذ الروسي داخل أجهزة النظام السوري وهو ما جعلها دوماً أمام خيار وحيد لتكون قادرة على لعب دور ما في الصراع السوري وهو دعم الأسد عسكرياً و التخلي عن الحلول السياسية التي يبرع نظام الأسد في إفشالها. يعاني النظام السوري اليوم خسائر عسكرية متلاحقة وقد تقلصت قدرته على ضمان السيطرة المركزية وذلك بعد تزايد أعداد المليشيات المحلية والأجنبية التي تسانده والتي تعمل خارج إطار الجيش السوري. في ضوء هذا الضعف العسكري، تأمل روسيا أن زيادة نفوذها العسكري داخل سوريا سوف يعطيها نفوذاً سياسياً ضرورياً لدفع الأسد لتقديم تنازلات حقيقية في مفاوضات جادة مع الولايات المتحدة والدول الإقليمية، والوصول، في نهاية المطاف، إلى تسوية سياسية تحافظ على المصالح الروسية في سوريا.
وقد يجعلها ذلك قادرة على استغلال المرونة التي أبداها أخيراً وزير الخارجية الأمريكي جون كيري بشأن مصير الأسد، ولكن بعد أن تجيب عن سؤال كيري الأهم: “نحن مستعدون للتفاوض… هل أن روسيا مستعدة لجلب الأسد إلى طاولة المفاوضات لإيجاد حل لهذا الصراع؟”.(كارنيجي)
* باحث وصحفي فلسطيني–سوري، مهتم بالشؤون السياسية والاقتصادية لبلدان الشرق الأوسط وخصوصاً سوريا.