منذ أسابيع قليلة أعاد بعض الكتاب مرة أخرى، رؤية العلامة ابن خلدون في طبائع العرب وصراعاتهم الداخلية المذهبية والإثنية، خاصة ما قاله ابن خلدون بالنص في طبائعهم في كتابه الشهير “المقدمة” عن خروجهم من “ربقة الحكم وعدم الانقياد للسياسة.. فهم منافسون في الرئاسة وقل أن يسلم أحد منهم الأمر لغيره ولو كان أباه أو أخاه أو كبير عشيرته، إلا في الأقل وعلى كره من أجل الحياء، فيتعدد الحكام منهم والأمراء، وتختلف الأيدي على الرعية في الجباية والأحكام فيفسد العمران وينتقص.. فتبقى الرعايا في مملكتهم كأنها فوضى دون حكم”. وربط هؤلاء الباحثون بين هذه المقولة، والواقع العربي الراهن، خاصة الصراعات السياسية بين دوله، لكن هذه الرؤية لاقت نقداً شديداً من بعض الأكاديميين والباحثين مثل محمد عمارة في كتابه (الإسلام والتعددية) حيث يرى أن ما كتبه هؤلاء ينطلق من فهم خاطئ وقراءة مبتسرة لمراد ابن خلدون فيقول محمد عمارة: من هم “العرب” الذين حكم ابن خلدون بأن “طباعهم قد بعدت عن سياسة الملك”؟! هل هم العرب كأمة؟! أم العرب الأعراب الموغلون في البداوة والتوحش، قبل أن يتدينوا بالإسلام، فتتهذب طباعهم ويساعدهم الإسلام على حذق إقامة الملك والدولة وسياسة العمران؟!.
ويضيف د/محمد عمارة موضحاً مقاصد ابن خلدون في العرب في المقدمة فيقول:”لقد عقد ابن خلدون – في مقدمته – فصلاً جعل عنوانه (فصل في أن العرب أبعد الأمم عن سياسة الملك) لكنه – قبل هذا الفصل مباشرة – عقد فصلاً آخر جعل عنوانه:(فصل في أن العرب لا يحصل لهم الملك إلا بصبغة دينية من نبوة أو ولاية أو أثر عظيم من الدين بالجملة).
ولو أن قارئا وقف _ عند عنواني هذين الفصلين لأدرك أن هناك عربا يحكم عليهم ابن خلدون بأنهم أبعد الأمم عن سياسة الملك.. وهناك عرب يحسنون الملك والسياسة، لكن إذا كان لهم حظ من الدين. وعندما يقرأ القارئ ما تحت العناوين، سيجد فكر ابن خلدون شديد الوضوح في التمييز بين العرب في طور التوحش والإيغال في البداوة، قبل التدين بالإسلام، أو عند الانسلاخ عن جوهره.. وبينهم عندما جعلهم الإسلام سادة الفتوحات وأساتذة الدول والسياسات.
ويقتبس د/ عمارة من هذه المقدمة بعض الآراء لابن خلدون في عرب البداوة المتوحشة الذين قال عنهم إنهم “أبعد الأمم عن سياسة الملك” فيقول إن هؤلاء – كما قال ابن خلدون – هم الذين اختصروا “بالإبل وهي أصعب الحيوان خصالاً ومخاضاً.. فاضطروا إلى النجعة.. فأوغلوا في القفار.. فكانوا لذلك أشد الناس توحشاً (..) – إلى أن يقول – ” فيتعدد الحكام منهم والأمراء، وتختلف الأيدي على الرعية في الجباية والأحكام فيفسد العمران”!.تلك هي صورة العرب – عند ابن خلدون – في طور “البداوة المتوحشة”.. الذين يفرون من الاستقرار والعمران، ويهدمون المباني لتحويل أحجارها إلى أثافي للقدور، ويهدمون السقف ليتخذوا من أخشابها أوتاداً للخيام.. هؤلاء الذين قال عنهم ابن خلدون – كما يقول الدكتور محمد عمارة – هم الفئة التي تنطبق عليهم مثل هذه الأوصاف التي ذكرت سابقاً في المقدمة” أما الأمة العربية التي جاءتها رسالة الإسلام، ونبوءة محمد التي حملت الإسلام إلى العالمين، وفتحت الفتوح، وأقامت الدول والمماليك، وبنت الحضارة، وساست العمران.. فلابن خلدون حديث طويل عنها.. لا ندري كيف أغفله هؤلاء؟.
ونحن نرى أن هذا التشخيص الخير الذي طرحه د/ عمارة لآراء ابن خلدون لمفهوم البداوة، والتحضر والعمران عند العرب، وإشكالية الممانعة والمدافعة باعتمادهم على الغير، هي الأقرب والأكثر انسجاماً مع أطروحات هذا العالم الجليل، في مجمل ما وضعه من نظريات، في السياسة، والتاريخ، وعلم العمران (الاجتماع) لأنه بالإسلام انتصر العرب، وهم الأقل عدداً وعتاداً على أكبر إمبراطوريتين في ذلك العصر، وهما الإمبراطورية الرومانية، والإمبراطورية الفارسية، والصبغة الدينية عندما تستحكم في النفوس وتقوى في القلوب، فإنها تلعب دوراً أساسياً في صياغة حياة المجتمعات، الفكرية، والسياسية، والاجتماعية ومن هنا يرى الباحث صلاح سالم أن “الاتجاه الخلدوني في صياغة دور الدين في الحياة السياسية، أكثر إنصافاً من كل الفلاسفة الماديين الذين أعلوا سلطان القوة الأعمى، وتناسوا الفكرة الدينية تماماً في القرون الأخيرة بالذات. وذلك رغم ما يشاع عن تأثر ابن خلدون في ذلك بنمط حياته في رحاب السلطة السياسية، وعلى مقربة منها واعتبار ذلك تنظيراً ودفاعاً عن السلطان السياسي والسلطان الروحي الخاضع له في مواجهة السلطان الروحي المستقل والرافض لهذا الخضوع، وفي هذا السياق يقول ابن خلدون في كتاب له “إن السلطان السياسي الذي هو سلطة العصبية والقوة، يمكن أن يضفي على نفسه صفات المعرفة بالإضافة إلى سلطة الروح والدين، فتزداد قوة واستقراراً، لكن المعرفة وحدها لا يمكن أن يتأسس عليها أي سلطان سياسي دون العصبية والقوة. ومفهوم العصبية – عند ابن خلدون – الذي يفهمه البعض بمعناه الضيق في حالة النسب والرحم، إذ لا يكون في كل السياقات هو مراد ابن خلدون، عندما يتحدث عن العصبيات عند العرب، فهناك العصبية العاضدة للدولة والسلطان السياسي، وهناك العصبية الساعية للملك، وهذا ما يظهر من دراسة ابن خلدون للظاهرة الاجتماعية، عندما وضع فصلاً بعنوان (في أن الغاية التي تجري إليها العصبية هي الملك) “فابن خلدون – كما يقول – د/ لؤي صافي – ينطلق من مفهوم العصبية بوصفها ظاهرة سياسية، ومن تصور للطبيعة الإنسانية يرى أن التغلب والتفوق مطلب طبيعي للنفس الإنسانية، ليقرر أن السلطة السياسية، أو القدرة على إمضاء الرأي رغم معارضة المعارض والمخالف، من نصيب العصبية الأقوى، أي من نصيب الجماعة السياسية القادرة على إخضاع الجماعات السياسية الأخرى إما بقهرها والتنكيل بها وتشتيت قواها، أو باسترضائها والدخول معها في تحالفات سياسية ويستمر الحلف السياسي بالتوسع والانتشار وبسط النفوذ بقهر القوى المعارضة أو استرضائها إلى أن يصطدم بحلف سياسي آخر”.
ولذلك نعتقد أن ما جاءت نظرية ابن خلدون، في علم الاجتماع عن العرب، من التباسات وغموض وتعميمية في بعض الأحيان، كان بسبب معايشته شخصياً فترة أليمة مرت بها الحضارة العربية الإسلامية وتمزق وتناحر أهلي داخلي. ونرى أيضاً أن هؤلاء وقعوا في نفس الظروف عندما كتبوا هذه الآراء بعد الاحتلال الغاشم لدولة الكويت 1990، وما تبعها من انقسامات وتمزقات وجراح أليمة عانتها الأمة العربية كلها، ومازالت مثقلة بآثارها إلى الآن ونرى أن المقارنة غير دقيقة من خلال تنزيل آراء ابن خلدون مع واقعنا الراهن، لاختلاف الظروف والملابسات والوقائع، والقياس هنا من الصعب مقاربته، لأن الفارق الزمني والفكري مختلف عما عاصره العلامة ابن خلدون في عصره وزمنه.