سقطت رهانات حكومة نتنياهو بإفشال اتفاق 14 تموز بين مجموعة (5+1) وإيران، كما سقطت جهودها باستمالة عددٍ كبير من أعضاء الكونجرس الأميركي لمعارضة الاتفاق بعد طرحه أواخر الشهر الجاري. فقد تبين أن الرئيس باراك أوباما يمتلك أغلبية جيدة لتمريره بسهولة دون استخدام صلاحياته المباشرة لفرض الاتفاق.
حقيقة الأمر، ومنذ الكشف عن جوانب مختلفة للبرنامج النووي الإيراني عام 2002، و”إسرائيل” توليه أهمية قصوى في سياق سعيها إلى حشد جهود المجتمع الدولي لوقفه، حين ادعت أنّ المشروع النووي الإيراني يُمثّلُ خطرًا على وجودها، وهددت مرارًا طوال السنوات الماضية باستعمال القوة العسكرية ضد المنشآت النووية الإيرانية، وسيلة للضغط على المجتمع الدولي، للتحرك عسكريًّا ضد إيران، أو على الأقل فرض مزيد من العقوبات عليها، وتعميق عزلتها الدولية.
ومنذ ما يقارب عقدٍ من الزمن، بدأت الحكومات “الإسرائيلية” المتتابعة بالتحشيد الإعلامي والتحريض الدولي ضد البرنامج الإيراني السلمي للطاقة النووية، فقد ادعى العديد من قادة الاحتلال أن الخطر الأكبر على الإنسانية هو البرنامج النووي الإيراني، حيث قال نتنياهو أثناء قيادته لحكومته الأولى عام 1996 “إن على العالم أن يعي مدى خطورة أن يكون لدى نظام أصولي سلاحًا نوويًّا”. وأضاف “إيران تُهدد بالأساس إسرائيل، ولكن ليس وحدها، بل العالم بأسره، بما فيه دول عربية وإسلامية” داعيًا لمشروع “إسرائيلي” كبير لتحقيق حملة إعلامية تهدف إلى إقناع الرأي العام في الغرب للتحرك ضد المشروع النووي الإيراني، مُنطلقًا من أن أغلبية الناخبين في “إسرائيل” تريد على حد قوله “قائدًا على مستوى أرئيل شارون أو اسحق رابين أو مناحيم بيجن” لذلك بدا في خطابه الأول كرئيس وزارة عام 1996 كمن يريد أن يظهر سياسيًّا في الشارع الصهيوني لمواجهة ما يسميه بـ”التهديد الإيراني”، وإعلانه استعداده للحل العسكري واستهداف طهران.
وكان بنيامين نتنياهو من بين كل رؤساء الحكومات “الإسرائيلية” المُتعاقبين الأكثر تناولًا للمشروع النووي الإيراني، ومطالباته بوضع حدٍّ له، بيد أنّ نتنياهو، وخلافًا لمن سبقه من قادة الكيان الصهيوني اختلف مع الإدارة الأميركية ورفض علنًا سياستها الهادفة إلى إيجاد حل سياسي لأزمة البرنامج النووي الإيراني، الأمر الذي وتّر علاقاته مع واشنطن بشكلٍ غير معهود. إذ سعى نتنياهو إلى فرض رؤيته، المُتمثلة بإزالة البنية التحتية للمشروع النووي الإيراني كليةً، إمّا بضربة عسكرية للمنشآت النووية الإيرانية، تقوم بها الولايات المتحدة أساسًا مع تحالف دولي وبمشاركة الكيان الصهيوني الفاعلة، أو بفرض مزيد من العقوبات الاقتصادية الخانقة على إيران، لإرغامها على تفكيك مُجمل مشروعها النووي، مع تفضيله الدائم للخيار العسكري باعتباره الحل الأنجع من وجهة نظره. لذلك، عارضت حكومة نتنياهو بشدة اتفاق جنيف التمهيدي الذي تمّ التوصل إليه في نوفمبر/تشرين ثاني 2013، واتفاق الإطار الذي أبرم في إبريل/نيسان من العام الجاري 2015، واستتباعًا الاتفاق النهائي الذي تم التوصل إليه مؤخرًا في 14 تموز/يوليو 2015.
الحكومات الصهيونية المُتتالية عَمِلت بالفعل على دفع واشنطن للتسخين مع إيران والتحضير لاستهدافها عسكريًّا على أساس أن العقوبات المفروضة الأميركية والأوروبية على طهران لم تأتِ بنتيجة، وأن القوة هي السبيل الوحيد لمنعها من تطوير قدراتها النووية، على اعتبار أن البرنامج النووي الإيراني يُشَكِلُ “خطرا وجوديا على إسرائيل”، وقد عَمِلت حكومة نتنياهو الأولى وفق التقديرات التي كانت سائدة في حينها على الساحة الدولية على أن تُشارك “إسرائيل” بشن ضربة عسكرية على إيران، لكن الولايات المتحدة كان ترفض ذلك مطلقًا، وفضلت الخيار السياسي الدبلوماسي، نظرًا للعواقب غير المحسوبة لأي عملٍ عسكري، باعتباره يدخل من باب المغامرة. كما رفضت الولايات المتحدة إسناد الكيان الصهيوني بأي عمل عسكري قد تقوم به “إسرائيل وحدها”. فـ”إسرائيل” تدرك بأنها عاجزة عن القيام بأي عمل عسكري ضد إيران وحدها دون الموافقة والإسناد اللوجستي الأميركي التام والكامل، إضافة للإسناد السياسي الفعّال على الصعيد الدولي، وضرورة التعهد الأميركي أولًا وقبل الإقدام على العملية العسكرية بحماية “إسرائيل” من عواقب هكذا عملية استثنائية، ومن حينها أدركت “إسرائيل” أن استهداف إيران بعملية جوية استثنائية، ودون الضوء الأخضر الأميركي ستبقى على مجرد حديث تلوكه الألسن داخل الدولة العبرية الصهيونية.
إلى هنا، يَتفق “الإسرائيليون” مؤيدين للاتفاق النووي أم معارضين له أم متحفظين منه، على أنّ هذا الاتفاق الأخير، يُدخل إيران والمنطقة في مرحلة جديدة، تحمل بين ثناياها تحديات وتهديدات لـ”إسرائيل” عليها الاستعداد لتبعاتها. حيث اتسمت ردات فعل رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، ووزرائه بالتشدد في رفض الاتفاق النووي الإيراني، واستعراض آثاره السلبية على أمن “إسرائيل” إذ شرع فور الإعلان عن التوصل إلى اتفاق بشن حملة ضده، ادعى فيها أنّ الاتفاق “خطأ تاريخي”، وأنّ الدول العظمى “تجازف بمستقبلنا الجماعي”، وأنّ “العالم أصبح، بعد هذا الاتفاق، أكثر خطورة ممّا كان عليه بالأمس”، وأنّ الاتفاق يُمكّن إيران من “امتلاك القدرة على إنتاج ترسانة كبيرة من الأسلحة النووية”.
رفضت أحزاب المعارضة الصهيونية بالمثل الاتفاق، وانتقدت في الوقت نفسه نتنياهو لفشله في التصدي للمشروع النووي الإيراني، ولتوتيره العلاقات مع الإدارة الأميركية. فقد قال إسحق هيرتزوج زعيم المعارضة إنّ “الاتفاق النووي سيئ ويهدد أمن إسرائيل، وعلى الحكومة والمعارضة، على السواء، مواجهة نتائج الاتفاق على المستويين، القريب والبعيد”.
وفي مقابل شبه إجماع الأحزاب الصهيونية من الحكومة والمعارضة، في موقفها الذي عَدَّ الاتفاق سيئًا، رأى خبراء عديدون شَغِلَ أغلبهم، في الماضي، مناصب عليا في المؤسسة الأمنية والعسكرية الصهيونية “أنّ الاتفاق يُمثّل الخيار الأفضل من بين الخيارات المطروحة، ويغلق بالفعل الباب أمام إيران في الحصول على سلاح نووي في السنوات المقبلة”. معتبرين أن الرفض يقع من باب “مزايدات الأحزاب الصهيونية في الحكم والمعارضة ودوافعها السياسية، بمعنى غير الأمنية، لمعارضة الاتفاق”. في الوقت الذي ما زالت مواقف آخرين من رجالات ومتقاعدي المؤسستين الأمنية والعسكرية يتسم بالتطرف وبرفض الاتفاق وتسعير الأجواء ضده داخل أوساط اللوبي اليهودي في الولايات المتحدة لدفعه من اجل الضغط على أعضاء في الكونجرس من أجل معارضة التصديق على الاتفاق أواخر أيلول/سبتمبر الجاري 2015.
وبالنتيجة، فَشِلت “إسرائيل” طوال السنوات الماضية بتحريض المجتمع الدولي ودفعه لشن حرب عسكرية على إيران واستهداف منشآتها النووية. وفشلت في منع توصل المجتمع الدولي إلى اتفاق نهائي مع إيران بشأن مشروعها النووي، ومن المُستبعد أن تتمكن من استمالة عدد كافٍ من أعضاء مجلس الشيوخ الأميركي، لمعارضة الاتفاق النووي عند التصويت القادم عليه، والتغلب على فيتو الرئيس باراك أوباما. ومن المرجح أنّ “إسرائيل ستضطر في نهاية الأمر، إلى التعايش مع الاتفاق والعمل، في الوقت نفسه، على الحصول على تعويضات من الإدارة الأميركية، بعد أن يقرّ الكونجرس الاتفاق في آخر سبتمبر/أيلول الجاري 2015. حيث تسعى إسرائيل للحصول على مزيد من الأسلحة النوعية الأميركية المتطورة التي تعزّز قدراتها لا سيما قدرات سلاحها الجوي”.