مع أنني لم أقابله في حياته القصيرة سوى مرة واحدة، إلا أنني أشعر أن علاقة فوق شخصية تربطني بالشهيد غسان كنفاني، الذي مر على اغتياله الأول، في بلدة الحازمية شرق بيروت، أربعون سنة ويزيد. ففي ذلك اللقاء العابر وقت الغروب، بدر عني موقف لفت انتباه رئيس تحرير ملحق “فلسطين” الأسبوعي، الذي كانت تصدره صحيفة “المحرر”، إحدى أشهر يوميات العصر الذهبي للصحافة اللبنانية. فكتب فارس ذاك الملحق عني فقرة، في سياق مقال تحدث فيه عن مشاهداته خلال أول زيارة قام بها إلى منطقة الأغوار، حيث التقيته.
عندما اغتالته، في المرة الأولى، يد “الموساد” الآثمة (وكان في أوائل الثلاثينيات من العمر)، بدا دافع الجريمة السياسية غامضا ومحل تساؤل. فغسان لم يكن مقاتلاً، وإن كان مناضلاً بالكلمة التي يبدو أنها لا تقل شأناً عن الرصاصة. وكنت حين استشهاده مقيما في لبنان، فخرجت برفقة زوجتي للسير وراء نعشه، وكانت حاملاً. فقلت في نفسي، وسط الجموع الهائلة، التي كانت تودعه: إذا جاء البكر ولداً، فسوف اسميه على اسم غسان، وهكذا كان. وهو أمر جعلني، رغم فارق العمر، أشعر لاحقا بأبوة غامضة تجاه الراحل الكبير.
والحق أن صلاتي الفكرية والروحية قد توثقت بغسان بعد تلك الواقعة المؤلمة، التي كانت فاتحة لسلسلة من الاغتيالات الإسرائيلية لعدد من القادة والمثقفين الفلسطينيين المقيمين في بيروت؛ إذ قرأت معظم رواياته فيما بعد، لاسيما رواية “رجال في الشمس” التي استذكرها بعض الزملاء، في معرض استعادة مشهدية مشابهة لمأساة فلسطينية وقعت على الحدود الكويتية في الستينيات، متطابقة مع مأساة نحو سبعين سورياً اختنقوا في شاحنة على الحدود النمساوية. كما استمتعت كثيراً برواية “عائد إلى حيفا” لما تنطوي عليه من مفاهيم متقدمة لهذا الروائي الذي لم تمهله الأقدار، فضلاً عن ملحمة “أم سعد” التي أرّخت، على صغرها، لبدايات الثورة الفلسطينية المعاصرة داخل المخيمات.
قبل نحو ستة أشهر، وغداة انتخابات الكنيست التي فازت فيها القائمة العربية المشتركة، بقيادة الشاب أيمن عودة، الذي أبهر الفلسطينيين والإسرائيليين خلال الحملة الانتخابية، بخطابه التجديدي وأطروحاته المتقدمة، كتب المفكر الأميركي العربي جيمس زغبي، عن تلك الانتخابات، مستذكراً واقعة قديمة، مفادها أنه عندما رغب في وضع أطروحته للدكتوراة، ذهب إلى لبنان طالباً من غسان كنفاني أن يساعده على إجراء بحث يتناول عملية انبثاق وعي الفلسطينيين بذاتهم الوطنية بعد طول سبات. فقال له غسان، بروح استشرافية مذهلة: عليك أن تذهب إلى عرب الـ48، فهناك يتشكل هذا الوعي الجنيني. وقد ذهب جيمس إلى هناك بالفعل.
خلاصة القول، إن غسان كنفاني المناضل المثقف التقدمي، وفوق ذلك الشهيد المقاوم، رمز باذخ من الرموز الوطنية لشعبه، وموضع تقدير واحترام شامل، فكيف، والمقام مقام علم محل إجماع، لأحد من أبناء جلدته أن يقدم على اغتياله مرة جديدة، ليس في إطار صراع مفتوح مع العدو، وإنما في نطاق نزاع على الوعي والذاكرة والسلطة والموروث الحضاري، التي تسعى العقلية الظلامية القائمة بسلطة الأمر الواقع في القطاع المحاصر إلى مصادرته بجرة قلم؛ وذلك حين استبدلت عنوان مدرسة تحمل اسم غسان كنفاني، بأخرى تحمل اسم مرمرة، في سياق نهج متواصل لاجتثاث كل إرث وطني فلسطيني عامّ، حتى لا نقول كل تاريخ مشترك وكل ذاكرة موحدة؟!
على مدى الأسبوعين الماضيين، تناول عدد من الكتاب، في فلسطين وخارجها، هذا الاعتداء الانتقامي المستهجن على قامة وقيمة غسان كنفاني، وأظهر البعض منهم سخطاً شديداً على مرتكبي هذه الفعلة النكراء. غير أن ذلك لم يزدني إلا رغبة في التنديد بعملية الاغتيال المعنوي لصاحب الاسم الذي أتكنى باسمه، وأشعر بعد أن تقدم العمر بأبوة أعمق تجاهه، خصوصاً بعد أن وجدت أن أخلص رفاقه في الجبهة الشعبية، قالوا كلاما ناعماً ضد هذه الفعلة المستهجنة، فيه من العتب أكثر مما فيه من غضب، وبدوا بمناشداتهم “للإخوة في حماس” كمن يرفعون الحرج عن أنفسهم ليس إلا، إزاء افتئات من يتوسلون توني بلير، أحد أكثر الشخصيات وضاعة في التاريخ الاستعماري للإمبراطورية البريطانية، للحصول على وهم إمارة صغيرة وفقيرة ومدمرة.