عروبة الإخباري – كتب رئيس الوزراء الاسبق سمير الرفاعي يقول :
أما وقد أنهى المنتدى العالمي للشباب والسلام والأمن، أعماله، تحت رعاية سامية وحضور مؤثر لسموّ ولي العهد سمو الأمير الحسين بن عبد الله الثاني حفظه الله ورعاه؛ يبدو الوقت قد حان لإعادة مراجعة أولوياتنا والعمل بجدية أكبر على استثمار ثروة الأردن الأثمن وهي فئة الشباب، والتي تشكل الغالبية العظمى من المجتمع الأردني. هذه الفئة الأكثر حيويّة، تفترض منّا الحد الأعلى من المسؤوليّة تجاهها؛ إذ ينبغي أن تكون قاعدة للعطاء والإبداع الإستثنائي، ولدينا من الطاقات الشبابيّة الإبداعيّة ما يبشّر بذلك. ولكنها، وفي الوقت ذاته، مستهدفة، بالخطاب المضاد والفكر المضلل. وهناك من يريد لها أن تكون، لا قدّر الله، بمثابة أرض خصبة لأفكار متطرفة تشوّه صورة ديننا الحنيف، أو حتى لأفكار أخرى، تزعم النزعة العلمانيّة.
والآن، لدينا ‘إعلان عمان’ الذي صاغته عقول وضمائر الشباب المشاركين في المنتدى العالمي للشباب والسلام والأمن، كخارطة طريق نحو إطار سياسات أفضل من أجل دعم الشباب في التعامل مع الصراعات، ومنع العنف والتصدي له، وبناء السلام المستدام.
وعليه، لا يجوز أن نكتفي بالإعلان، على أهميّته الأدبيّة والرمزية. وإنما ينبغي علينا أن نعمل فوراً، كما أكد سمو ولي العهد، ‘بشراكة الشباب؛ وليس بتمثيلهم تمثيلا ًخجولاً’، من خلال الاسترشاد بما جاء به ووضع الخطط اللازمة لنشر مبادئه التي أكد مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة للشباب على التزام الأمم المتحدة بالتقاطها.
لقد نوه جلالة سيدنا حفظه الله مراراً، وفي العديد من المناسبات، إلى أننا ونحن نخوض حربنا ضد الإرهاب والتطرف، والمنطقة مشتعلة؛ يجب أن لا ننسى أولوياتنا بخصوص مستقبل شبابنا الواعد وتوسيع الاقتصاد وتحسين النمو لكي ينعم به شباب الأردن كافة، من أبناء البادية والحضر والقرى والمخيمات، بالفرص الأفضل.
إن مواجهة مشكلة مستعصية وضخمة متمثلة بالنِسَب المتدنية لمشاركة الشباب بالاقتصاد، تتطلب، ابتداءً، وقبل أيّ شيء؛ منحها الأولوية، بالتفكير والتخطيط وكل طاقة جهد؛ فهي لا تعني فقط الفقر أو التعطل، ولكنها تعني أيضاً التوتر الاجتماعي وتعطيل طاقة الشباب والشابات وفقدان الثقة بالمستقبل وإنهاك الطبقة الوسطى وإضعاف مؤسسة الأسرة والعشيرة، وتنعكس على نسب الجريمة والجنوح، وتخلق مناخات مواتية للتفكير اليائس السلبي. لذلك، ولغير ذلك مما يضيق المجال بتعداده، يجدر أن يكون على سلم أولوياتنا، برامج واضحة محددة قابلة للمساءلة والقياس، تفرض على كل مؤسسة أو وزارة أن تحدد دورها وبرنامجها في التشغيل المنتج وخلق فرص العمل الدائمة والكريمة للأردنيين وتعزيز دور الشباب في التنمية المستدامة. وأقصد، هنا، كل وزارة ومؤسسة عامة على وجه التعيين.
وفي هذا السياق، تبرز ضرورة سن تشريعات جديدة، تضمن توسعة الاقتصاد ونموه، وتشجيع القطاع الخاص لخلق فرص عمل هي بمثابة أولوية وطنية، مع توقف قدرة مؤسسات الدولة عن المزيد من التوظيف التقليدي غير المنتج، ومع هذا التزاحم على أبواب وسجلات ديوان الخدمة المدنية. إن هذه المرحلة، بالذات، حيث تتعزز مكانة الأردن العالمية وفي ظل التحديات الإقليمية، تتأكد فيها فرصتنا في الإفادة من كل المعطيات لتحفيز النمو والاستثمار.
وعند الحديث عن القيم، وتحصين الشباب بالمُثُل العليا والخبرات اللازمة، تجدر الوقفة مع ضرورة وطنية، باتت ملحة، وأزعم أن الأردنيين، إلى حد كبير متوافقون عليها. وأقصد هنا، العودة إلى خدمة العلم كمشروع شراكة حقيقي مع القطاع الخاص، وفق أسلوب جديد، وفهم متطور، بحيث يتم اختصار الفترة، وتوفير فرص التدريب المهني والتقني لشبابنا وشاباتنا، بعد انقضاء متطلبات التدريب العسكري الميداني، وتكريس ثقافة الانضباطية والالتزام والعمل الجماعي والروح المعنوية العالية وزرع معاني الإيثار والتضحية والوطنيّة الحقّة، في أحضان المؤسسة العسكرية الوطنية التي تذوب فيها كل الفوارق والاعتبارات والهويات الصغيرة لتنصهر في مدرسة النشامى المعنية بالوطن، قبل أي شيء.
إن النتائج المتوقعة من إعادة خدمة العلم، وفق منظور جديد، ستكون ذات مردود إيجابي على مجتمعنا وشبابنا وخزينة الدولة أيضاً، وستسهم بخفض نفقات أخرى، نبذلها في مكافحة الآفات الاجتماعية الناتجة عن التعطل والفراغ ودخول ثقافات وسلوكيات وقيم معاكسة لمنظومتنا الوطنية. وبهذه المجموعة من الشباب والشابات، المدربين والمؤهلين، نستطيع أن نقدم قائمة لأي شركة أو مستثمر يريد أن يعمل في الأردن وبحيث يحظى بإعفاءات إضافية إذا وظف من هؤلاء الشباب أو قدم مساهمات مهمة لخدمة العلم. ويمكن أيضا أن يصار للتنسيق مع جهات معينة ومن خلال سفاراتنا، لتوظيف شبابنا في الدول العربية والصديقة.
وبالتوازي، تتطلب المواجهة مع الفكر المتطرف وثقافة التكفير والانعزال سياسات منهجية، مدروسة بعناية، تشمل إصلاح الخطابة في مساجدنا، و التي هي بالأصل بيوت الله عز وجل، ودُور عبادة ومنارات لنشر الفكر الوسطي المعتدل، والدعوة للرحمة والتكافل، وتحض على الخير والتعاون ومكارم الأخلاق. وهو ما ينطبق، أيضا، على واقع مدارسنا، وأركان العملية التعليمية، ابتداء من المدرس والمنهاج والبُنى التحتية والمرافق التعليمية، وصولاً إلى إعداد جيل من الطلبة، المهيئين لمرحلة الدراسة الجامعية، أو الانتقال إلى أي مجال من مجالات التدريب أو العمل والعطاء، مزودين بما ينفعهم من أدوات التفكير السليم البناء، والقائم على تعزيز ثقافة التعاون والروح الإيجابية.
إن المتابع لأداء جلالة الملك ونشاطاته وخطاباته واتصالاته، يلحظ بوضوح أن الدبلوماسية الأردنية، استطاعت أن تحقق في أكثر المراحل عسراً وتعقيداً، إنجازات مهمة ونوعية، على أكثر من صعيد. ومن بين الإنجازات المهمة، تثبيت حقيقة أن الرؤية الأردنية، المنبثقة من التمسك الدائم بالاعتدال كخيار فاعل لمجابهة التحديات، مع الدور ‘الرسالي’ الذي ينطلق منه الأردن في سياساته ومبادراته (بدءًا من رسالة عمان وليس انتهاءً بإعلان عمان)، رغم كل الضغوطات الداخلية والخارجية، قد برهنت حصافة الفهم الأردني لواقع الصراعات وارتباطاتها؛ ما يؤكد أن مكانة الأردن الدولية بقيادة جلالة الملك؛ هي نتاج قراءات دقيقة ومواقف ثابتة ورؤى استشرافية، مصحوبة كلها بالحد الأعلى من الشجاعة الأدبية والسياسية، وتقديمِ النموذج، المتميز، في العلاقات الدولية، وفي التمسك بالثوابت والمصالح العليا، وفي الإصرار على خيار الإصلاح الشامل، المنسجم مع هذه الرؤية، ومع الرغبة الشعبية، والتفاف الأردنيين، كافة، حول قيادتهم ومؤسساتهم ودولتهم الوطنية.
وهذا ما يقوم به، ويسنده، بأدائه الاحترافي، وحضوره المؤثر، سمو ولي العهد الأمير الحسين بن عبدالله المعظم، حيث لفت سموه انتباه العالم، واهتمام المتابعين والمراقبين، خلال ترؤس سموه اجتماع مجلس الأمن في شهر نيسان الماضي، حيث خصصت لنقاش ادماج الشباب ومحاربة التطرف، وهو ما تأكد، كذلك، في رعاية سمو الأمير للمنتدى العالمي للشباب والسلام والأمن، وخطاب سموه، الزاخر بالمعاني والرسائل الصريحة، في مؤتمر دولي، يعد الأول من نوعه، والتعهّد بأن الأردن سيسعى إلى تنفيذ إعلان عمان ونقل توصيات المنتدى إلى مجلس الأمن بهدف العمل على تبنيها في قضايا الأمن والشباب.
كلمات سموه، مع إطلالته الواثقة، تميزت بكل التأثير والصدق والحيوية، وبالرروح الإيجابية المبشرة، حيث اتسم خطاب سمو ولي العهد بالأمل والتوازن، حول واحدة من أهم عناصر القلق وإثارة المخاوف للمجتمع الدولي، وهي مسألة الشباب وتحدي الفكر المتطرف.
لقد كان لأداء سموه تأثير إيجابي على دور الأردن وصورته. وكان بحد ذاته، تأكيداً لقوة الخطاب الأردني، ولإمكانية الشباب الأردني والعربي، في طرح رؤاه والتصدي للمهام الجليلة. وهو ما يدعونا اليوم للتأكيد، مرة أخرى، بأن الانطلاق من الثقة بالذات، وتقييم عادل لأداء الدولة الأردنية، وفي كافة المراحل؛ هو الأساس، الذي يجب أن ننطلق منه، في بناء استراتيجياتنا الداخلية، مستندين إلى الإيمان بقوة الدولة ورسالة قيادتها وسلامة خياراتها.