ارتبطت قناة السويس عند المصريين بالتضحية والفداء منذ أن بدأ الحفر رسميا في موقع القناة في الـ25 من أبريل العام 1859 والذي استمر لمدة عشرة أعوام. ورغم أن التاريخ يسجل أن حفر القناة الفعلي تم العام 1859 إلا أن محاولات إنشائها استغرقت ألاف السنين قبل هذا الوقت، حيث تعود الفكرة إلى المصريين القدماء الذين ربطوها عن طريق النيل وعبر السنوات المختلفة ظلت فكرة الربط بين البحرين الأحمر والأبيض تناوش كل الممالك والامبراطوريات لإدراكهم أهمية المجرى الملاحي الذي يوفر الوقت والمال للربط بين القارات الثلاث “آسيا إفريقيا وأوربا”.
وفي الوقع لم تكن الحملة الفرنسية على مصر ولا الفرنسي فريدناند ديليسبس أول من أطلق فكرة قناة السويس، حيث جاءت الفكرة إلى المصريين القدماء منذ قديم الأزل وإن لم تكن بنفس الصورة حيث كانوا يتصورون خطأ أن مستوى البحر الأحمر أعلى من البحر الأبيض المتوسط، ولذلك كانوا يربطون بينهما عن طريق نهر النيل, ومن قناة سيتي الأول وقناة دارا الأول ثم قناة بطليموس الثاني وقناة الرومان فقناة أمير المؤمنين تعددت الأسماء التي تم إطلاقها على القناة حتى عهد العباسيين الذين قرروا إغلاقها تماما لقطع الطريق أمام وصول الإمدادات عبرها إلى أهالي مكة والمدينة الثائرين ضد حكمهم .. وقد أدى إغلاق القناة إلى انهيار اقتصاد مصر وإيطاليا بشكل كبير، وأصبحت القوافل التجارية في ذلك الوقت تعتمد على الطرق الصحراوية.
استمر هذا الوضع حتى القرن الخامس عشر الميلادي حين اكتشف البرتغاليون طريق رأس الرجاء الصالح والذي اتجهت التجارة الدولية إليه، وكان المماليك قد وصلوا إلى حكم مصر في هذا الوقت، وحاول الإيطاليون إقناعهم بإعادة فتح القناة من جديد التي أغلقها العباسيون، وعندما علم البرتغاليون هددوا المماليك بالاتفاق مع الأحباش على تحويل مجرى مياه النيل عن مصر إلى البحر الأحمر فتراجع المماليك عن الفكرة حتى سقط حكمهم .. واستمرت فكرة الربط بين البحرين الأحمر والأبيض متوقفةلايجرؤ أحد على تنفيذها حتى قامت الثورة الفرنسية وقرر الملك لويس الرابع عشر غزو مصر وإحياء فكرة مشروع حفر القناة، إلا أن لويس الرابع عشر أجل القرار. وفي عام 1798 أرسلت فرنسا حملة عسكرية بقيادة نابليون بونابرت حاملة معها عدة مشروعات من بينها دراسة حفر قناة تربط البحرين، إلا أنه وبسبب نفس الأخطاء الحسابية التي وقع فيها المصريون القدماء أبلغ لوبير ـ كبير المهندسين في الحملة ـ بونابرت بأن مستوى البحر الأحمر أعلى من مستوى البحر الأبيض، وأن حفر القناة سيؤدي إلى غرق مصر من جديد!
وعندما رحل جيش بونابرت عن القاهرة لم ترحل الفكرة عن المهندسين الفرنسيين الذين كانوا مفتونين بنابليون ومشروعاته فعادوا إلى مصر في عهد محمد علي وطلبوا منه دراسة مشروع حفر القناة من جديد بعد أن اكتشفوا خطأ حسابات المهندس لوبير فوافق محمد علي، لكنه اشترط أن تكون هذه القناة تحت السيادة المصرية، الأمر الذي رفضته فرنسا وإنجلترا، فقال محمد علي قولته المشهورة “لاأريد بسفورا في مصر” في إشارة إلى مضيق البسفور التركي الذي أدى إلى تدخل الدول الأوروبية في السياسة التركية من أجل ضمان حرية الملاحة فيه، حيث أدرك محمد علي أن حفر القناة سيزيد من المطامع الدولية للتدخل في شؤون مصر وهو ماكان يرفضه رفضا باتا!!
مر عهد محمد علي، وجاء عهد عباس الأول “1848ـ 1854″ والذي سار على خطى والده في رفض فكرة القناة، وفي عام 1855 تغير الأمر كليا عندما تولى سعيد باشا حكم مصر ليعرض عليه فريدناند ديليسبس فكرة المشروع وهما في أحد سباقات الخيل ليوافق سعيد ويمنح حق امتياز المشروع لديليسبس لمدة 99 عاما، وهنا بدأت أولى خطوات حفر قناة السويس .. وتعود سرعة موافقة سعيد على الفكرة إلى العلاقة العائلية التي كانت تجمعه وديليسبس منذ الصغر، فعقب رحيل الحملة الفرنسية عن مصر أوفد نابليون دبلوماسي فرنسي يدعى ماتيو ديليسبس إلى مصر في العام 1801 لإقناع المصريين باختيار محمد علي باشا واليا على مصر بدلا من البرديسي الذي قامت إنجلترا باختياره، وهو ما أدى لتوطيد العلاقة بين محمد علي وماتيوديليسبس، وبعدها طلب ماتيو من محمد علي رعاية ابنه فريدناند في حال وفاته وبناء على هذه الوصية عرض “محمد علي” على فريدناند أن يعمل مربيا في القصر ومعلما لابنه سعيد، ومن هنا نشأت العلاقة بين الاثنين!
كانت شروط الامتياز مجحفة في حق مصر بدءا من تنازل الحكومة المصرية عن كل الأراضي المطلوبة لحفر قناة السويس دون مقابل، وأن يكون للشركة المحتكرة حق امتياز استخراج المواد الخام اللازمة للمشروع من المناجم والمحاجر الحكومية دون ضرائب وإعفاء الشركة من الرسوم الجمركية، وأن تقدم الحكومة للشركة أربعة أخماس العمال من المصريين، وأن تحصل مصر في المقابل على 15% من صافي أرباح الشركة .. ورغم محاولات إنجلترا عرقلة المشروع بدأ الحفر رسميا في القناة يوم الـ25 من أبريل العام 1859 واستمر لمدة عشرة أعوام كان المصريون يعملون بـ”السخرة”، ما أدى إلى وفاة 120 ألف مصري خلال سنوات حفر القناة من الجوع والعطش والمرض ليفتتح الخديويإسماعيل قناة السويس رسميا يوم الـ16 من نوفمبر العام 1869 إلا أن تراكم حجم الديون على مصر أضعف اقتصادها وفي نوفمبر 1875 اضطر “إسماعيل” إلى بيع حصة مصر من أسهم القناه للحكومة الإنجليزية لتصبح مصر لاتملك شئيا في القناة.
وفي عهد الرئيس الراحل جمال عبدالناصر تم تأميم شركة قناة السويس، وهوما أدى إلى قيام العدوان الثلاثي على مصر بمشاركة إنجلترا وفرنسا وإسرائيل في العام 1956، إلا أن الجيش المصري وأهالي مدن القناة تصدوا لهذا العدوان الغاشم حتى قامت حرب الخامس من يونيو العام 1967 واحتلت إسرائيل إحدى ضفتي القناة، وهو ما أدى إلى إغلاقها أمام حركة الملاحة الدولية، وعقب حرب أكتوبر وفي يوم الـ5 من يونيو 1975 أعاد الرئيس المصري الراحل أنور السادات افتتاح القناة في حفل كبير .. وقد شهدت قناة السويس عدة توسعات في عهد عبدالناصر والسادت وحسني مبارك، إلا أن شق قناة جديدة في عهد الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي هو الأكبر حيث يبلغ طول القناة الجديدة 35 كيلومترا وبعرض 147 مترا وبعمق 24 مترا، وهي تربط بين تفريعة البلاح والبحيرات المرة، وبذلك يصل طول القناة كاملة 72 كيلومترا، وهو ماسيقلل زمن الإبحار داخل القناة من 18 ساعة إلى 11 ساعة، وهو مايجعل المصريين يشعرون الآن بالفخر خاصة وأن القناة الجديدة استغرق حفرها عاما واحدا فقط ورغم ضخامة هذا المشروع لم يشهد سوى 15 حالة وفاة فقط.
سامي حامد/قناة السويس .. من “السخرة” إلى الفخر!!
11
المقالة السابقة