قد تكون هذه المرة العاشرة التي يشير فيها الملك إلى الموضوع الاقتصادي وضرورة إعطائه الاهتمام الكامل من قبل الحكومة ومؤسساتها. وبطبيعة الحال كذلك كان الأمر مع حكومات سابقة. ومع هذا فإن التجاوب مع الإشارات الملكية غالبا ما يكون إعلامياً في الجزء الأكبر منه، واسترضائيا هامشيا في الجزء الآخر . ,ورغم الكثير من المؤشرات على صعوبة الوضع الاقتصادي الكلي والجزئي، وزيادة المشقة وارتفاع تكاليف المعيشة على المواطن، وتصاعد الأسعار والتضخم الذي لم يتوقف، ورغم المناشدات من المفكرين والسياسيين والاقتصاديين وأصحاب الأعمال للحكومات المتعاقبة للتحرك الجاد في خطة اقتصادية وطنية متماسكة، إلا أن ذلك لم يكنً كافياً ليدفع الحكومات إلى تبني برنامج عاجل يوقف التراجعات الاقتصادية، و يفتح الباب لتحقيق مكاسب يشعر بها المواطن. والسؤال هل يمكن وضع خريطة طريق سريعة قابلة للتطبيق في هذا الاتجاه؟ وضمن الظروف التي تمر بها المنطقة ؟ أم علينا الانتظار والتريث حتى تستقر وتخمد النيران المشتعلة من حولنا؟ الإجابة أن الانتظار قد يطول و يزيد الأوضاع تعقيدا، و بالتالي علينا أن لا نضيع مزيدا من الوقت. نعم. وكنت أتمنى كغيري من المواطنين لو أن الحكومة دعت فوراً مجموعات من الخبراء والمفكرين الاقتصاديين وأصحاب الأعمال و المال من القطاعات المختلفة لوضع أجندة عاجلة أمام الحكومة لتأخذ القرارات المناسبة بشأنها . ولأسباب عديدة يبدو أن هذا النمط من العمل أي الإستعانة بالخبراء و الشركاء و المفكرين غير محبب لدى حكوماتنا التي كانت تركز على مدى السنوات إما على الجانب المالي أو على التشريعات. هذه مسائل هامة وضرورية ،ولكنها لا تصنع الاقتصاد، ولا تجذب المستثمرين بصورة تلقائية .و مهما افترضنا لأنفسنا من خصوصية فإن الإفادة من تجارب الأمم هي حجر الزاوية. و هنا نذكر تجربة سنغافورة و التي بدأت انطلاقتها قبل 50 سنة حين انفصلت عن ماليزيا كدولة فقيرة جدا، و كان عدد سكانها 2 مليون نسمة من خليط غير متجانس من الأعراق والثقافات والديانات.و حين واجهت السؤال الكبير:” كيف تصبح البلاد جاذبة للإستثمار؟” أجاب الخبراء والباحثون والمفكرون الذين كانوا يعملون جنبا إلى جنب ليلا و نهارا مع رئيس الوزراء الراحل “لي كوان يو” أولا:المواطنة و حكم القانون و سيادته بشكل كامل. ثانيا نظام قضائي عادل فعال ناجز، وسليم من أي اختراقات. ثالثا كفاءة الإدارة الحكومية و نزاهتها على مختلف المستويات، و استقرار الإدارة و محاربة الفساد و اقتناع الموظف العام إن خدمة المستثمر ستعود على الجميع بالمنفعة. رابعا رفع مستوى المعلم و المدرسة و تحديث التعليم و تطويره بشكل جذري و ربطه باحتياجات المشاريع. خامسا تخريج قوى عاملة متميزة بكل المهارات التي يتوقعها المستثمر و في سياق المشاريع التي يجري العمل عليها.سادسا نظام ضريبي معتدل و مستقر بشفافية كاملة ، و دون تهرب أو تمييز. سادسا إقدام الحكومة على المشاركة في المشاريع الكبرى في إطار رؤية واضحة للمشاريع ذات القيمة المضافة العالية. أن ما يجذب المستثمرين هو قراءة الأرقام المشجعة والايجابية عن الأداء الإقتصادي الوطني، و الاطمئنان إلى نزاهة الإدارة والقضاء والحيوية المجتمعية و الثقة و التعاون التام ما بين المؤسسات الرسمية و القطاعات الأخرى. وهذا يتطلب من الحكومة المبادرة فوراً إلى تشكيل عدد كاف من فرق عمل استشارية دائمة يكون كل فريق بمثابة العقل المفكر للقطاع و للمؤسسة ذات العلاقة فيضع الأهداف و مؤشرات الأداء و يدفع للعمل وفق رؤية علمية وعملية ناضجة. و تلتزم الدولة من خلال مجلس الأمة والأحزاب و منظمات المجتمع المدني والتعاونيات بتطبيق البرامج المتوافق عليها.و في مقدمتها مساعدة القطاعات المتراجعة و أهمها الزراعة والسياحة ،والشركات المتعثرة والمصانع المتوقفة من خلال لجان متخصصة تعمل على وضع الحلول المناسبة بالتعاون ما بين الأطراف الثلاثة الحكومة والمؤسسات المالية والإتحادات أو الغرف النوعية. ومثل هذا الإجراء من شأنه أن يعيد الثقة في الاقتصاد الوطني ويفتح آفاقا جديدة و يطمئن المستثمر إلى سلامة البيئة الاستثمارية . و يتبع ذلك المباشرة بإنشاء عدد من المشاريع الإنتاجية بالتشارك المتكافئ. و أخيرا، آن لنا أن ندرك و نصدق أن المسألة الاقتصادية هي مشروع متكامل، وليس مجرد إجراءات متقطعة، و أن الحكومة بمفردها لا تستطيع تنفيذ هذا المشروع الذي يشكل مدخلا جديدا نحو المستقبل.
ابراهيم بدران/الموضوع الاقتصادي… والمشـروع المتكامل
12
المقالة السابقة