تعرض الجيش المصري منذ 25 يناير 2011 وما يزال لاختبارات صعبة، ومر بمواقف ومعضلات عصفت بجيوش في دول أخرى حول مصر، وواجه أعاصير الربيع العربي وأمواج محاولات خارجية لإسقاطه أو تقسيمه أو تفتيته، لكنه ظل متماسكاً رغم بعض الجراح، قوياً رغم عنف المواجهات، ثابتاً في مواقفه رغم أحداث جعلت جيوشاً في دول أخرى تفر أمام مؤامرات قوى تحالفت مع التكفيريين، محافظاً على ردائه وسط أحداث جعلت عسكريين في دول أخرى يخلعون رداءهم خوفاً من الانتقام!
دعك هنا من الحديث عن تاريخ الجيش المصري، أو مكانته أو قوته أو مستوى تسليحه أو تعداده، فالمسألة تتعلق في الأساس بالظهير الشعبي للجيش، ومدى ولائه للدولة وولاء الشعب له.
نحن في موسم حفلات تخريج طلبة الكليات العسكرية في مصر، ففي شهر تموز (يوليو) من كل عام تُنظم العروض العسكرية المحدودة داخل الكليات التابعة للجيش لتخريج الضباط في الفروع المختلفة. وفي الوقت ذاته فإن مئات الآلاف من الشباب المصريين يسعون إلى الالتحاق بتلك الكليات فور إعلان نتائج امتحانات شهادة الثانوية العامة، ويصبح أمراً طبيعياً أن تشاهد، إذا سرت أمام أبواب الكلية الفنية العسكرية في منطقة كوبري القبة أو الكلية الحربية في مصر الجديدة أو الكلية الجوية في مدينة بلبيس مثلاً، الآلاف وهم يقدمون أوراق الالتحاق، أو يتوجهون إلى داخل تلك الكليات ليجروا الفحوص الطبية أو الاختبارات البدنية.
في دولة كمصر، ظل جيشها على مدى قرون وليس عقود يواجه تحديات تتعلق بالحفاظ على الدولة والدفاع عنها وحماية أمنها وشعبها، يصبح الالتحاق بالجيش أمراً يتجاوز مسألة الحصول على وظيفة أو تأمين مستقبل شاب، ويصل في بعض الأوقات، كما هو واقع الحال الآن، إلى حد المخاطرة، فضباط الجيش وأفراده معرضون لخطر دائم، وإذا كان المجندون ملتزمين بأداء الخدمة الوطنية العسكرية بحكم القانون، فإن الضباط والأفراد المتطوعين في الجيش المصري سعوا بأنفسهم وبمحض إرادتهم واختاروا أن يكونوا في دائرة الخطر. في كلمته أثناء حضوره حفل تخريج ضباط الدفاع الجوي قبل أيام، أشار الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي إلى أن نحو مليون شاب يلتحقون كل سنة بالجيش والشرطة مجندين، وكان للعبارة أكثر من مغزى، منها ما يعكس حجم الجيش وقوة الأمن (أعداد من المجندين بحسب قانون الخدمة العسكرية الإلزامية يلتحقون بقوات الأمن المركزي التابعة للشرطة ووزارة الداخلية). علماً بأن قوة احتياط الجيش تتجاوز خمسة ملايين، يمكن استدعاؤهم إذا دعت الحاجة إلى ذلك. وإذا عرفت أن متوسط عدد أفراد الأسرة في مصر يبلغ خمسة أفراد فإنك ستدرك أن نحو ثلث المصريين مرتبطون بالجيش عائلياً، ناهيك بالطبع عن الملايين ممن انتهت علاقتهم العائلية بالجيش، لكن بقيت صلات أخرى أهمها الولاء والتقدير. هناك أسباب عملية جعلت المصريين يحبون جيشهم كانتصاره في حرب أكتوبر، وحفاظه على كيان الدولة بعد ثورة يوليو في مواجهة الاستعمار، وتصديه لمحاولة تقسيم الوطن بعد وصول «الإخوان» إلى الحكم وانتزاعه منهم، لكنها أمور تتعلق بمهام الجيش ووظيفته. مهم جداً أن نتذكّر أن المصريين، كما غيرهم من أبناء دول عربية أخرى، كانوا يخشون تأثير محاولات «الإخوان»، وجهات أخرى تحالفت معهم ودول دعمتهم، على تماسك الجيش ووحدته، ومن عاصروا تداعيات ما جرى في 25 يناير 2011 وما بعدها تعجبوا من قدرة هذا الجيش على الصمود وسط أمواج متلاطمة من الشائعات والأكاذيب ومحاولات التفتيت والتشتيت.
لا يمثل الجيش في مصر طبقة أو فئة أو طائفة أو قبيلة أو ديانة بعينها، بل هو خليط من المصريين المسلمين والأقباط، من الأغنياء والفقراء المتعلمين والأميين المتطوعين والمجندين، ومن أهم ما كشفته مسألة سقوط شهداء من أبنائه في المواجهات مع الإرهابيين وجوه أهاليهم أثناء الجنازات، إذ تبين مع كل حدث كهذا أنهم لا ينتمون إلى محافظة واحدة بل كل محافظات مصر، وأن غالبية الشهداء من الضباط هم من أبناء الفلاحين والعمال البسطاء.
كل ذلك يفسر ردود فعل المصريين الغاضبة تجاه محاولات «الإخوان» إسقاط الجيش، ومحاولات الإعلام الموالي للجماعة الإساءة للقوات المسلحة، والمواد التي تعرضها فضائيات الجماعة ونشاط لجانها الإلكترونية على مواقع التواصل الاجتماعي وفيها ما يسيء إلى الجيش، لا تؤدي إلا إلى مزيد من عزلة «الإخوان» عن المصريين.
محمد صلاح/الجيش في مصر
11
المقالة السابقة