بعد ليالي السهد الطويلة في فيينا، بات الاتفاق النووي بين إيران والدول الست الكبرى، حقيقة سياسية من حقائق هذه المرحلة، إلا أنه لم يبلغ بعد درجة الحقيقة العملية الملموسة؛ إذ تنتظر هذا الاتفاق مدة زمنية تمتد إلى نهاية العام الحالي، وتواجه تطبيقه تحديات قد تتزايد مع مرور الوقت، الأمر الذي يمكن معه وصف الوثيقة الموقعة بأنها أقرب ما تكون إلى اتفاق معلق التنفيذ على عدة شروط مسبقة، ينبغي على إيران أولا، والولايات المتحدة تاليا، تلبيتها وفق آجال زمنية محددة.
وليس من شك في أن قوة الدفع التي تقف وراء هذا الاتفاق، هي قوة دفع كبيرة، أساسها رغبة الإدارة الأميركية وتصميمها الشديدين على تقليم أظافر إيران النووية، من دون نزعها من تحت الجلد؛ تقابلها مصلحة نظام الملالي في استعادة الأرصدة، ورفع أطواق العزلة، وإنهاء العقوبات المختلفة التي بدأت تأكل من اللحم الحي لنحو خمسة وسبعين مليون إيراني، لم تقدم لهم الشعارات الثورية الصاخبة تعويضاً يعادل حرمانهم المديد من التمتع بعوائد مصادر ثروة بلادهم الهائلة.
مع ذلك، فإن المصاعب والتحديات التي تواجه إنفاذ هذا الاتفاق الذي لقي أوسع ترحيب دولي، هي مصاعب جدية جداً، كامنة لدى الطرفين الرئيسين، ولدى أطراف أخرى مهمة تحاول، علناً وسراً، وقف هذا التحول التاريخي في مجرى العلاقات الإيرانية-الأميركية. الأمر الذي يحسن معه التعاطي مع الاتفاق على أنه حقيقة غير نهائية، وبالتالي عدم الاستعجال في إجراء المقاربات الرغائبية، واستخلاص الاستنتاجات المبكرة، وإشاعة أجواء التفاؤل المبالغ بها، أو مناخات التشاؤم المفرطة، حيال ما قد يفضي إليه الاتفاق من تداعيات محتملة.
وعليه، فإن من المفيد إبداء درجة معقولة من الحذر والترقب إزاء مستقبل هذا الاتفاق، الذي سيمس مصالح قوى داخلية إيرانية استفادت من الحصار، وبنت منظومة سيطرة ونفوذ لها في قلب الجمهورية الإسلامية، وفي مقدمتها القوى المحافظة، والحرس الثوري، والبيروقراطية الإيرانية التقليدية المهجوسة بفكرة المؤامرة الخارجية وبالعداء التاريخي للغرب. وهي قوى وازنة داخل النظام، لها أجندات خاصة بها، ولم تقل كلمتها بعد، وقد لا تفصح عن مواقفها إلا عند دخول المفتشين الدوليين إلى ما تعتبره قدس أقداسها.
على المقلب الآخر، هناك الكونغرس الأميركي بأغلبيته الجمهورية في المجلسين، والمعارض لتمرير هذا الاتفاق حتى قبل أن يقرأ أعضاؤه النص، ليس لأن الاتفاق سيئ، بل لأن الجمهوريين يمارسون هذه السياسة المناكفة إزاء كل ما يتخذه الرئيس الديمقراطي من مواقف داخلية وخارجية. الأمر الذي من المتوقع معه أن تشتد مظاهر هذا الاعتراض في غمرة انتخابات رئاسية بدأت قبل أن يحل موعدها المقرر، وأن تحتدم المزايدات لدى المرشحين الطامحين إلى استدرار أموال جماعات الضغط، واستجلاب أصوات قاعدتها المنظمة جيداً.
كما أنه من غير الواقعي الاستخفاف بمعارضة إسرائيل الشرسة لهذا الاتفاق، بعد أن تعهد الجمهوريون بإسقاطه في الكونغرس، الذي يعتبر ملعب بنيامين نتنياهو المفضل، والساحة الأكثر استجابة له من الكنيست، ناهيك عما بات لدى “اللوبي” الصهيوني من مدة تبلغ شهرين لممارسة فنون الترغيب والابتزاز والترهيب، للنواب والشيوخ والمرشحين، والرأي العام ومراكز الأبحاث والإعلام، وكل مشرّع قد يدلي بصوته لصالح المصادقة على اتفاق تصفه إسرائيل بأنه خطأ تاريخي فادح.
وماذا لو أن تقرير لجنة الوكالة الدولية للطاقة الذرية جاء، في موعده المقرر نهاية هذا العام، متضمناً شكوكاً إزاء بعض حلقات برنامج إيران النووي؟ وماذا لو أن الحرس الثوري عرقل، بذريعة الكرامة والسيادة، مهمة المفتشين الدوليين ومنع وصولهم إلى بعض المواقع السرية؟ وماذا لو تمكنت الدعاية والضغوط والإثارة من التهويل على الرئيس أوباما في آخر لحظة؟ وماذا أيضاً وأيضاً عن التفسيرات المتضاربة لبنود الاتفاق، وفق ما شرعت به طهرن قبل أن يجف حبر الاتفاق؟
هكذا، فإن مثل هذه التساؤلات، وغيرها من الأسئلة الموضوعية، تدعو إلى إبداء الحذر إزاء حتمية إنفاذ هذا الاتفاق في الأجل المحدد؛ ما يدعو في المقابل إلى الأخذ بموقف الترقب الشديد، وعدم البناء على ما يمكن اعتباره حتى الآن مجرد حقيقة سياسية مؤقتة، لم ترقَ بعد إلى مصاف الحقيقة النهائية المكتملة.