في مقال بالواشنطن بوست بقلم الكاتب الأمريكي ديفيد أجناشياس نشره قبل أيام خرج الكاتب عن المألوف والمتداول حول القضية العراقية وطرح حلا في إطار مؤتمر دولي يرسم خارطة طريق جديدة يصحح بها المآلات الكارثية للمشروع الأمريكي الفاشل والذي فرضته أمريكا بقوة السلاح بغزوها للعراق عام 2003.
المقال ينطلق من توصيات تقرير بيكر هاملتون لعام 2007 والتي كان تجاهلها الرئيس السابق بوش وبالتالي فإن طرح خيار المؤتمر الدولي ليس جديدا، لكنه يؤشر من جانب آخر إلى تحول في نظرة صانع القرار الأمريكي بما يخص القضية العراقية وطرق التعاطي معها، إن التحديات التي تواجه أمن واستقرار العراق هي من التعقيد والتشابك بحيث من غير الممكن أن يتصدى لها شركاء متشاكسون يجتمعون في إطار عملية سياسية مهلهلة يهيمن فيها طرف على آخر بقوة السلاح ووفرة المال مستقويا بنفوذ أجنبي، كما لايمكن معالجتها بالقوة المجردة بضربات جوية هنا وهناك. وعلى هذا الأساس فإن مجرد طرح مشروع المؤتمر الدولي هو اعتراف ضمني بفشل المقاربة العسكرية للتحالف الدولي وربما يشير إلى بداية مرحلة التفكير ببديل آخر أكثر واقعية يتمثل بتنشيط العجلة السياسية في الداخل والخارج، حيث أعاد الكاتب للذاكرة توصيات تقرير بيكر هاملتون عام 2007 المشار إليها بقوله: “إن حل الصراع الطائفي يتطلب ضغطا جديدا من أجل المصالحة وثانيا عمل جهد دبلوماسي جديد على الساحة الدولية”.
ولكن يبقى التساؤل قائما حول قدرة الولايات المتحدة وأهليتها في إدارة ملف أخفقت فيه مرارا من جهة، وإشكالية الزاوية المتحيزة التي تنظر من خلالها الإدارة الأمريكية للقضية العراقية من جهه أخرى، والتي تركز على تحدي الإرهاب فحسب بينما تتجاهل جميع التحديات ذات الطبيعة السياسية والاقتصادية والأمنية والقيمية والقانونية والاجتماعية رغم علاقتها المباشرة بتنامي التطرف والعنف، ليس هذا فحسب بل إن نظرتها للإرهاب وحيدة الجانب وتنسبه للتطرف السني بينما تتجاهل التطرف المضاد أي الشيعي!! أما الحل فليس في منظورها غير الوسائل الأمنية واستخدام القوة!! رغم أن الأحداث المتتالية على مدى ثلاث عشرة سنة أثبتت أن الإرهاب يعيش على الفشل والانقسام والفساد وغياب العدالة وهو لهذا لا يعالج الإرهاب إلا برزمة من الحلول تتصدى لجذور المشكلة ولا تكتفي بأعراضها، كحال الطبيب، يعالج أعراض المرض لكن بالقضاء على مسبباته.
أمنيا تنظيم الدولة (داعش) يشكل مصدر خطر كبيرا، لكنه ليس الخطر الأوحد إذا أخذنا بنظر الاعتبار 45 فصيلا مسلحا من المليشيات الشيعية والتي لا تختلف عن تنظيم الدولة في التطرف والغلو والتوحش هذا إلى جانب النفوذ الإيراني، والذي عده العديد من الخبراء، أنه الخطر الأكبر، كما وصفه الجنرال بيترايوس والعديد من أعضاء الكونجرس الأمريكي، صحيح أن تنظيم الدولة (داعش) تجاوز بتهديداته العراق وسوريا إلى السعودية وتونس وآخرها الكويت وهو يتمدد شرقا وغربا، لكن رب سائل يسأل عن ممارسات المليشيات الدموية وفرق الموت التي ينشرها فيلق القدس والحرس الثوري الإيراني والتي تتمدد هي الأخرى في العراق وسوريا ولبنان واليمن وأفغانستان مدعومة بخلايا نائمة في العديد من البلدان العربية والإسلامية؟ بالتأكيد هذه الفرق ليست طلائع سلام ولا جماعات للدعوة والإرشاد.
لذلك فإن القصور الذي تعاني منه الإدارة الأمريكية في نظرتها التحليلية، يكمن في اعتبار التنظيم يشكل خطرا مباشرا على الغرب،
ولأن المليشيات الشيعية لا تشكل هذا الخطر في الظرف الراهن على الأقل، بالتالي فلا بأس هنا من غض الطرف عن خطايا وجرائم المليشيات وما ترتكبه من مجازر وقتل وتهجير طالما كان الضحايا من العرب السنة فحسب! ولتذهب بعد ذلك قيم أمريكا ومبادئ الآباء المؤسسين في العدالة والحقوق والكرامة.. إلى الجحيم.
طالما بقيت نظرة الإدارة الأمريكية أنانية مصلحية قاصرة وتعتمد معايير مزدوجة فليس من المنطق اعتبار الولايات المتحدة شريكا أو أنها بسياساتها المعروفة يمكن أن تكون جزءا من حل، بكلمة أخرى الإدارة المذكورة غير مؤهلة ولا حتى مهيأة للدعوة إلى مؤتمر دولي حول العراق أو حتى قادرة أو راغبة في ممارسة ضغط كاف على إيران وإجبارها بالكف عن عرقلة انطلاق حوار جدي بين العراقيين لمعالجة المشاكل العالقة.. تاريخيا الولايات المتحدة لم تشجع ولم تتعاطف يوما مع فكرة مؤتمر وطني يوفر للعراقيين على اختلاف توجهاتهم فرصة لحل مشاكلهم بدعم ورعاية دولية، ففي عام 2005 تبنت منظمة الجامعة العربية اتفاقية القاهرة بينما تولت منظمة التعاون الإسلامي ورقة مكة عام 2006، هذا على الرغم أن للولايات المتحدة دورها المحوري المتميز ليس على الصعيد الدولي أو الإقليمي فحسب بل على الصعيد الوطني العراقي حيث مازال العراق يرتبط باتفاقية الإطار الإستراتيجي مع الولايات المتحدة.
أن تكون لدينا إشكالية في الرؤية مع الولايات المتحدة لا ينتقص من أهمية وجدوى المؤتمر الدولي حول العراق، والمأمول في ضوء ما سبق أن تتحرك الدول المتضررة فعلا من الفوضى والأوضاع المتردية في العراق وأخص بالذكر دول مجلس التعاون الخليجي التي سعت تاريخيا – رغم البروباجاندا المسيسة – إلى وحدة الصف وجمع العراقيين على كلمة سواء لتتولى هذا المشروع وتعمل على تسويقه عالميا بالطريقة التي تصب في صالح العراق والمنطقة.
يرى الكاتب أجناشياس (أن العراق بحاجة إلى عملية تقاسم للسلطة تضم الممثلين الحقيقيين للمكونات المختلفة، وإن الوقت قد حان لإعادة بناء النظام السياسي في العراق من القاع إلى القمة)، وهي إشارة موفقة يتحفظ فيها الكاتب على الحلول المقدمة حتى الآن باعتبارها حلولا ترقيعية لا تمس أصل المشكلة أو جوهر الموضوع، إشارة إلى ما تشهده الساحة السياسية العراقية من مساجلات ومناقشات وأخذ ورد على قوانين الحرس الوطني، والعفو العام، وتعديل قوانين المساءلة والعدالة ومكافحة الإرهاب والأقاليم، والمصالحة الوطنية، وما بين الإقليم والمركز تبرز قضية الخلاف المزمن حول قانون النفط والغاز.. كل هذه المواضيع مطلوب الاتفاق عليها، ولكن في إطار رزمة شاملة للإصلاح ضمن خارطة طريق وتوافق سياسي لن يحققه إلا ذلك المؤتمر.
مؤتمر سياسي دولي حول العراق لا يستثني أحدا حتى المقاطعين للعملية السياسية والمعترضين عليها، لابد أن ينصرف إلى ثلاثة محاور رئيسية، الأول ولابد أن يجيب على السؤال المركزي التالي: هل في أجندة النخبة الشيعية الحاكمة مكان لائق لبقية المكونات الاجتماعية وعلى وجه الخصوص العرب السنة للمشاركة في وطن واحد؟، ونأمل أن يكون الرد بنعم، ما يمهد للانتقال للمحور الثاني وهو كيف تكون معايير ومواصفات هذه الشراكة؟، وماهو شكل الدولة التي يتحقق في ظلها العيش بكرامة، توفر العدل والمساواة وفرص التنمية والتقدم للجميع دون استثناء؟، والمحور الثالث ويعنى بالسيادة وينصرف لتحرير العراق من براثن التدخل الأجنبي وعلى وجه الخصوص التدخل الإيراني.. جدول أعمال واسع وعريض تضيق أمامه مساحة الوطن والأمل أن يتسع المجال أمامه في مؤتمر بمبادرة عربية أو إسلامية ورعاية دولية.
طارق الهاشمي/إن لم يكن دوليا.. ليكن المؤتمر عربيا أو إسلاميا
15