يبدو أن الطريق الى القدس، المتروكة لعاديات الزمان الرديء، والنسء والخذلان والإهمال المديد، عقودا وراء عقود، قد ضاعت معالمها (الطريق) تماما، وطمست الرمال المتحركة شواخصها الباهة بالكامل، وباتت في علم الغيب والمجهول؛ حيث لم يعد يعرف مسارها الالتفافي الغامض الطويل إلا المنتجبين من ذوي العمامات السوداء، بينهم وكيل الولي الفقيه في لبنان، المفوض من لدن نائب إمام الزمان الغائب، بأخذ زمام العامة من يدها، وإرشادها إلى أول الطريق القويمة.
كما يبدو أيضاً أن قضية فلسطين، والقدس في موضع القلب منها، ما تزال سلعة ذات علامة تجارية رائجة، لم ينته أجل استعمالها بعد. فمنذ أن كانت هذه القضية ذريعة مواتية للانقلابيين، من أجل تسويغ إصدار البيان العسكري رقم واحد، ما تزال محتفظة بصالحيتها للاستخدامات الزبائنية، حتى لدى الجماعات الإسلامية المتطرفة، سواء بإعادة تغليفها من جديد، أو بتدويرها كبضاعة تقبل عليها السابلة في أسواق الهال، وتدفع ثمنها من دون مساومة.
هكذا تجلى الأمر في يوم القدس العالمي، في الجمعة الأخيرة من رمضان، حين أطل زعيم حزب الله على مشاهديه عبر شاشة عملاقة، قائلاً باستخفاف شديد لعقول مستمعيه؛ إن الطريق إلى القدس لا تمر من بلدة جونية هذه المرة، وإنما من الزبداني وحمص وحلب، ومن الحسكة في أقصى شمال شرق سورية، بل وحتى من صنعاء وصعدة، ونسي الرمادي والفلوجة، وتناسى لواء الاسكندرون مع الأسف.
ولا أحسب أن أحداً ممن تلقى دليل الطريق إلى القدس هذا، سيجشم نفسه عناء القراءة، بمن فيهم ممثلو الفصائل الفلسطينية (“حماس” و”الجهاد الإسلامي”) ممن كانوا يجلسون على مقاعد الصف الأول لتلك الاحتفالية، التي فقدت منذ أعوام طويلة كل مغزى لها، إلا باعتبارها مناسبة سانحة لتجديد الحضور الإيراني في المشهد الفلسطيني، ترويجا لخطاب الجمهورية الإسلامية المخاتل، وتسويغا لتدخلاتها الإقليمية الفظة.
وليس أدل على ذلك من حقيقة أن الفلسطينيين أنفسهم، كفوا عن إحياء هذه الاحتفالية الذاوية، بعد أن تحولت في السنوات الأربع الماضية إلى مهرجان شعبوي لتأييد نظام الأسد، الذي قصف -يا للمفارقة الفارقة- مخيم اليرموك في يوم القدس ذاته. ومع أن أمين حزب الله أخبرنا أن الشعوب الإسلامية شاركت في اليوم العالمي هذا، بمن في ذلك الفلسطينيون، إلا أنه بالعودة إلى الصحف والمواقع الإخبارية الصادرة في القدس ورام الله وغزة، لم أجد خبرا واحدا عن أي فعالية متصلة بهذه الهمروجة الإيرانية.
بكلام آخر، فإن إعادة رسم خريطة الطريق إلى القدس، على هذا النحو الملائم لأغراض ديماغوجية فجة، والمتساوق مع أولويات إيرانية مضمرة، يعد سقطة سياسية أخرى مضافة إلى سلسلة السقطات التي وقع فيها حزب الله خلال سنوات النار والرماد السورية، لاسيما خطيئته الشهيرة في بلدة القصير، حين رفع “مجاهدوه” على مئذنة مسجد تلك البلدة الحدودية علم “لبيك يا حسين”، وأطلق محازبوه الرصاص ووزعوا الحلويات على المارة في الضاحية الجنوبية، إمعاناً في الاستفزاز والاستعداء، وطلباً لتسديد الثارات التاريخية.
إذ تعتبر واقعة القصير المشؤومة، نقطة التحول الفارقة في مجرى الأزمة السورية، فتح حزب الله من خلالها باب الصراع المذهبي على كامل اتساعه، وحوله من نزاع سياسي إلى فتنة طائفية، بعد أن أمدت مسلكياته الرعناء الجهاديين والمتطرفين، الذين كانوا حينها بالمئات، بالذخيرة اللازمة لاستقطاب مئات آلاف المتطوعين، الآتين من كل فج عميق، عرباً مسلمين، لمناصرة أهل الشام، كما دفعت بالثوارالمدنيين، وبالعسكريين المنشقين إلى التشدد والتمذهب، واستولدت “داعش” قي نهاية مطاف قصير.
لقد كانت واقعة القصير، وما واكبها من مظاهر تبجح واستقواء وغطرسة، خطيئة تاريخية لا تغتفر، اقترفها حزب الله تحت تأثير سكرة نصر إلهي موهوم، أججت تداعياتها النار أكثر، وسفكت المزيد من الدماء البريئة. وها هو حزب إيران اللبناني يسجل اليوم خطيئة أشد هولا من سابقتها، حين يتحدث عن طريق التفافية مزعومة تصل قم وليس القدس، أحسب أن المقدسيين خصوصا، والفلسطينيين عموما، لن يسيروا عليها خطوة واحدة، إن لم يرفضوها مشمئزين، إذا كان ذلك على حساب دماء ربع مليون سوري إضافي، وعذابات ملايين لاجئين جدد.
عيسى الشعيبي/متاهة الطريق إلى القدس
18
المقالة السابقة