قبل أن أخط هذه السطور القليلة، قمت بمحاولة سريعة، بحثاً عن تعريف موجز لمفهوم “القراءة الرغائبية” الدارج في مجرى السجالات السياسية الساخنة. فلجأت الى محرك البحث على موقع “غوغل”، علني أجد معنى متفقاً عليه لهذا الاشتقاق اللغوي المركب، قد يكون سبقني إليه كاتب صحفي، أو مؤلف ضالع في علم الكلام والفلسفة، فلم أعثر إلا على مفهوم آخر مكافئ له في المعنى والمغزى، شائع في الثقافة السياسية الغربية، ألا وهو تعبير “التفكير الرغائبي” (Wishful Thinking).
وعليه، سوف أعتبر “القراءة الرغائبية”، القائمة في جوهرها العميق على الوهم والتضليل، وخداع الذات والمتلقين، بمثابة الابنة الشرعية الوحيدة لمفهوم “التفكير الرغائبي” المستمد من التمنيات والافتراضات، المبنية بدورها على رغبات الأفراد والجماعات الذين يقرأون الوقائع الملتبسة، والتطورات المتفاعلة في المجال العام، إما على قاعدة التطيّر الشديد والاستغراق في السوداوية، وإما على أساس الإفراط في التفاؤل المستمد من رؤية تبسيطية، ترى أن كل شيء سيكون على خير ما يرام في نهاية المطاف.
وبهذا المعنى، فإن “القراءة الرغائبية” هي الكلمة المفتاحية لولوج المرء بوابة عريضة، تفضي إلى عوالم غاصة بحقائق افتراضية (Virtual Realities)، عوضاً عن الدخول إلى دروب التفكير النقدي، المؤسس على العقلانية والواقعية والأدلة المنطقية. وهو ما ينتج في الحالة الأولى، قرارات ومواقف وتصرفات منقطعة عن الواقع الحقيقي، تؤدي إلى الوقوع في الأخطاء وسوء التقدير والفشل. فيما يدفع في الحالة المقابلة، إلى مجابهة الواقع كما هو.
وبالانتقال من التجريد النظري إلى واقع السياسة اليومية، نجد لدينا ثلاثة نماذج ملموسة، تجلت في الآونة الأخيرة على رؤوس الأشهاد، ينطوي كل واحد منها على بيان عملي لمفهوم “القراءة الرغائبية”، المحمولة على جناح الانطباعات الذهنية المحلقة عاليا من جهة، وعلى تأويلات سطحية تواتي الرؤى النمطية المسبقة من جهة ثانية، بكل ما تشتمل عليه هذه القراءة من تأويلات تلفيقية وآراء عقائدية وأفكار دعائية أقرب ما تكون إلى “البروباغاندا” السياسية.في المثال التطبيقي الأول، خذ القراءة التعسفية، إزاء المبادرة الأردنية المتعلقة بدعم العشائر السُنّية، في غرب العراق وشرق سورية، لتقف بنفسك، وترى بأم عينك، سيلاً من التحليلات الجزافية لمضمون هذه المبادرة، إلى حد اتهام الأردن بأنه يسعى إلى توسيع حدوده وتكبير حجم سكانه، من دون أدنى التفات إلى حقيقة موضوعية صلبة، مفادها أن هذه الفوضى العارمة، هي التي أدت إلى نشوء تنظيم “داعش” الذي راح يقدم نفسه على أنه الممثل الحقيقي للمكون السُنّي المستباح في البلدين المجاورين.
وفي المثال الثاني، كانت المبادرة الفرنسية الخاصة باستئناف عملية السلام المتوقفة على المسار الفلسطيني-الإسرائيلي، مناسبة أخرى لانهمار سلسلة أخرى من القراءات المسكونة بعقلية الرفض التقليدية، والمفعمة بشبهة الدفاع عن إدامة الاحتلال الراهن، إلى درجة دعا فيها كتاب وسياسيون فلسطينيون إلى رفض استقبال وزير الخارجية الفرنسي لوران فابيوس في رام الله، وإسقاط “المؤامرة” الفرنسية، المتضمنة ضغوطاً جديدة للحصول على تنازلات إضافية. وهي دعوة لم تجد أذناً صاغية إلا عند بنيامين نتنياهو، الذي أسقطها بضربة إسرائيلية طفيفة.
أما ثالثة الأثافي، وأشدها فحشا في عملية “القراءة الرغائبية”، فهي تلك المبالغات الكلامية الباحثة عن إثارة الهلع والترهيب، فيما يتعلق بمآلات الموعد المقرر بعد أيام لتوقيع الاتفاق النووي الإيراني. إذ من المتاح لكل من لديه فضول، تقليب صفحات لا حصر لها من التحليلات “الهامايونية” المتوعدة بعظائم الأمور، حول ما ستكون عليه ردة فعل طهران الانتقامية ضد أربع جهات الأرض، إذا لم تستجب الدول الكبرى لاشتراطات آيات الله ومكابراتهم، وتذعن صاغرة، لإملاءات نظام يختنق تحت ضغط العقوبات الاقتصادية المديدة.
وهناك بالطبع جملة طويلة من الأمثلة والنماذج المشابهة، وعدد متفاوت المستويات من القراءات الرغائبية الهاذرة، التي كلما أعدنا فحص إحداها بأثر رجعي، على ضوء المعرفة المكتسبة لاحقا، وجدنا أنها مجرد عملية خداع للنفس والرأي العام، واكتشفنا أن مضاعفات هذا التزييف الإرادي للواقع، وكل ذلك اللّي لأعناق الحقائق، كان يؤدي دائما إلى تفاقم المشاكل، وتعميق حدة الأزمات الناشبة، بدلا عن تصويب الأمر من مبتدئه، ومعالجة الموقف قبل أن يتعقد أكثر، بفعل القراءة الرغائبية هذه
غيسى الشعيبي/القراءة الرغائبية.. ثلاثة أمثلة حية
14
المقالة السابقة