بعد احتلال أفغانستان والعراق بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، برزت للسطح من خلال إدارة اليمين المحافظ الحاكم آنذاك في الولايات المتحدة نظرية “الحرب الاستبقائية” لنقل الحرب إلى العدو في مواقعه بدلاً من المجيء إلينا، ودخلت الولايات المتحدة مع أفغانستان لإنهاء حكم طالبان الحليف لتنظيم القاعدة، ثم شنت الولايات المتحدة مع حليفتها المملكة المتحدة الحرب على العراق بدعوى امتلاك النظام العراقي لأسلحة الدمار الشامل، وظهر أن هذا الادعاء لا أساس له من الصحة، لكن الحرب لها أهداف أخرى.
وعندما تحولت الحرب في العراق إلى ما يشبه الفوضى وغابت مقولات النموذج العراقي في الديمقراطية، طرح بعض المنظرين في اليمين المحافظ نظرية “الفوضى البناءة”، ومع أنه لا يوجد في مفاهيم النظم والمصطلحات الدولية ما يسمى بـ”الفوضى البناءة” إلا أن المفهوم نفسه يتناقض بعضه مع البعض، فلا يوجد في التجربة الإنسانية ما يجمع الفوضى مع البناء الإيجابي للحياة الإنسانية بشكل من الأشكال، فعبارة الفوضى البناءة مفهوم ملتبس يبرز كيفية الهروب من الأزمات القائمة بالحديث عن مصطلحات لا تمتّ للواقع بأي صلة.
صحيح أنه بين عام 1945م وعام 1949م ظهر ما يسمى بنظرية الحرب الوقائية أو الحرب المانعة أو حرب الإحباط عند البعض، حيث ساد في تلك الفترة ـ بحسب قول د/ إسماعيل مقلد ـ الاعتقاد في “دوائر الخبراء العسكريين والسياسيين المسؤولين عن التخطيط لمثل هذه الإستراتيجية، بأن الاتحاد السوفيتي كان في طريقه إلى امتلاك قوة نووية، وحينئذ كان من المتعيّن على الغرب أن يواجه خطرين في آن واحد: خطر الهجوم السياسي الشيوعي على مناطق نفوذه ومراكز قوته، وخطر الهجوم النووي الذي كان من المحتمل أن يبادئ به السوفيت خلال فترة التصلب الستاليني وسيطرة مفهوم حتمية الحرب بين العسكريين.
ومن هنا تبلور مفهوم الحرب الوقائية على أنه كان يعني السعي نحو تدمير قوة الخصم والإجهاز عليها قبل أن تنمو في كامل أبعادها.
وقد علل دعاة نظرية الحرب الوقائية منطقهم بالحجج الآتية:
أ ـ أنه من خلال الحرب الوقائية وحدها كان يمكن تجريد الاتحاد السوفيتي من أسلحته السياسية الهجومية والحيلولة بينه وبين اقتراف العدوان على النمط النازي المعروف.
ب ـ إن اعتناق مفهوم الحرب الوقائية كان يعمل على منع كارثة وقوع حرب عالمية نووية بكل أخطارها التدميرية الفظيعة.
جـ ـ وبالإضافة إلى ذلك فإنها كانت تحقق التفوق التكنولوجي للغرب، وبشكل لا شبهة فيه، فوق التفوق البشري السوفيتي.
غير أن تطبيق نظرية الحرب الوقائية تعثر لأكثر من سبب، ومن ذلك:
أ ـ أن هذه النظرية كان من الصعب تبريرها أخلاقياً في ظل مبادأة دولة نووية بشن الهجوم ضد دولة غير نووية، لأن ذلك كان لابد أن يعزل أمريكا عن العالم كله.
ب ـ أن انتهاء الاحتكار الذري الأمريكي في سنة 1949م، مقترناً باتجاه الاتحاد السوفيتي إلى توزيع قوته النووية وتنويع وسائله في الردع، جعل من الصعب تماماً تطبيق هذه الإستراتيجية والوصول من خلالها إلى نتائج تطابق الأهداف الموضوعة لها.
إذا كانت نظرية الحرب الوقائية تقوم على فكرة تدمير قوة العدو بواسطة الضربة الأولى النووية دون اشتراط أن يكون هذا الهجوم مسبوقاً باستفزاز من جانب الخصم، فإن نظرية حرب الإحباط تحاول أن تجد لها أساساً أخلاقياً تبني عليه تبريرها لفكرة الحرب الهجومية، وهو أن الحرب الهجومية تصبح جائزة ومبررة في الحالات التي يثبت فيها أن الخصم على وشك أن يشن هجوماً نووياً ضد الولايات المتحدة وحلفائها.
ففي هذه الحالة تعبأ كل مقدرات القوة النووية الأمريكية لكي تستخدم على وجه السرعة في إحباط هذا الهجوم الوشيك.
ومن هنا يتضح أن الفارق الرئيسي بين النظريتين يتركز حول عنصر الوقت. ففي حرب الإحباط يكون عامل الوقت قصيراً جداً في التحضير لخوض هذه الحرب، حيث إن التحضير يبدأ بعد أن يكون قد تأكد أن الخصم في طريقه إلى الانتهاء من تجهيز قوته استعداداً للحرب.
أما الحرب الوقائية فإنها لا تتم بمثل هذه السرعة الخاطفة، وإما يكون شنها تحت الظروف وفي الوقت الذي يعتقد أنه يوفر أفضل الفرص للمبادأة بهذه الحرب.
كما أن اللعبة الدولية، كما يعتقد العديد من الباحثين، ترى أن الخطر قد يكون محدقاً في نمو قوة دولة أخرى على حسابها مستقبلاً ـ وهذا لا ينطبق على أفغانستان أو العراق ـ يدفعها إلى الدخول في نزاع لاحتواء قوة تلك الدولة أو موازنتها.
وقد رأى البعض من القانونيين في النظام الدولي أن على الدول دائماً محاولة استشراف نوايا الدول الأخرى تجاهها. ويعتبر أن البقاء في وضع سلمي، كما يقول/ ناصيف يوسف، يفترض أن تذهب الدولة إلى حرب ضد دولة قد تهدد أمنها يمكن أن يشكل خطراً لاحقاً على الدولة. وهو ينصح بعدم انتظار هجوم من دولة أخرى، إنما باستباق ذلك ويعطي مثالاً كيف أن قوة أثينا دفعت بالمدن ـ الدول الأخرى إلى التحالف والدخول في حرب ضدها.
ولقد اعتبر روسو أنه حتى لو كانت هناك دولة تريد السلام مثلاً، فهي لا تستطيع تحقيق ذلك إلا إذا كانت الدول الأخرى تريد الشيء ذاته، مما يعني أن تلك الدولة قد تضطر إلى اللجوء إلى حرب استباقية قبل أن يتحول الوضع القائم لمصلحة الأطراف الأخرى.
وتشكل هذه النظرة أحد أسس ميزان القوى، وهي كما سبق وأشير، ظاهرة في كتابات ثوثيدابدس، وكذلك في كتابات مكيا فللي وهوبز.
ويرد كثير من أصحاب مدرسة الواقعية السياسية مجمل مصادر النزاع إلى المستوى النظمي. ويعتبر جورج ليسكا مثلاً أن طبيعة النظام الدولي والضغوطات التي تنتج عنه، على كل دولة للحفاظ على قوتها أو زيادة قوتها، يساهم في دفع بعض الدول لانتهاج سياسات توسعية أحياناً.
ويركز مفكرو الواقعية السياسية في تفسير السلوكيات النزاعية على مفاهيم إستراتيجية، كالاختلال في ميزان القوى أو وجود “فراغ قوة”، الذي يحدث نتيجة انسحاب قوة كبرى من القيام بدور أساسي، سياسيا وأمنيا، كانت تقوم به في منطقة معينة أو دولة معينة.
وبعد انتهاء الحرب الباردة في نهاية القرن الماضي اتجهت الولايات المتحدة انتهاج سياسة الانفراد بخيار القوة على أساس أنها القوة العظمى بعد اختفاء الاتحاد السوفيتي وانهيار المعسكر الاشتراكي، ووفقا لهذا التوجه فإن الولايات المتحدة ـ بحسب السيد ياسين ـ لا ترى ضرورة أن ترتبط بعلاقاتها التقليدية مع شركائها، ولا أن تلتزم بالقواعد والمؤسسات العالمية (ومن أبرزها الأمم المتحدة بطبيعة الأحوال) وأن عليها أن تتقدم إلى الأمام لتلعب دوراً منفرداً واستباقياً وذلك في مجال مهاجمة التهديدات الإرهابية، ومواجهة الدول المارقة التي تبحث عن تسليح نفسها بأسلحة الدمار الشامل.
وهكذا يمكن القول إن روح الإستراتيجية الأمريكية الجديدة تتركز في أن الولايات المتحدة ستستخدم قوتها العسكرية الفائقة والتي ليس لها مثيل، ووفقاً للإستراتيجية الجديدة ـ كما يقول ياسين ـ فإن الولايات المتحدة الأمريكية قد تجاوزت سياسات الاحتواء والردع التي شكلت جوهر الإستراتيجية الواقعية السابقة التي سادت طوال عصر الحرب الباردة، كما أنها في الوقت نفسه لم تعد تعتمد على الإستراتيجية الليبرالية، التي تشجع الانفتاح الديمقراطي وحرية التجارة، ولكنها ستعتمد في المقام الأول على قوتها العسكرية الفائقة لفرض إرادتها على المجتمع الدولي وفقاً لما تراه محققاً لمصالحها الإستراتيجية، وفي ضوء معايير السلوك الدولي التي ستضعها هي بمفردها وتفرضها على الجميع.
نظرية الفوضى البناءة التي قال بها البعض مفهوم خطير على النظام الدولي إذا لم تراع القوانين الدولية وأخلاقياتها المتبعة، فإن الفوضى العارمة غير المنضبطة هي التي ستسود وهذا ما حدث في العراق الآن وبصورة مأساوية، وربما تكون في أماكن أخرى إذا بقيت هذه المفاهيم هي السائدة بعيدا عن المعايير القانونية والعدالة والأخلاق.
عبدالله العليان/هل نجني الآن نظرية اليمين الأمريكي في (الفوضى الخلاقة)؟
14
المقالة السابقة